للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن القيم: "وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فيكون ظلمًا وحرامًا إذا أريد به منع الناس من الربح المباح الذي أحله الله لهم بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية ٢٧٥] ، كإرغام على بيع الأشياء المحرمة، أو تعديل صور البيع إلى أوضاع تخالف صورتها الشرعية، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المألوف، أرباح معتادة تؤخذ بدون غش ولا خديعة، ولا غبن، ولا تغرير، فإن حديث أنس بن مالك السابق نهي عن التدخل في مثل هذه الحالة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن ألقى الله ...)) .

أما إذا كان التسعير يرمي إلى العدل بين الناس كتدخل الحاكم لإرغام التجار على إخراج بضاعة اختزنوها برغم شدة حاجة الناس إليها لهدف بيعها بأثمان باهظة أو لتسويقها إلى جهات أخرى لمزيد الربح، فإن التسعير هنا حتى تباع بثمن المثل يكون أقرب إلى عدل الله وإلى سنة نبيه الكريم، الذي سنبين في موضوع آخر أحكامها من الاحتكار فتدخل السلطة الحاكمة لإحقاق الحق، رعيًا لمصالح عامة الناس هو خدمة للعدل وإجراء التسعير أمر واجب (١) .

لقد حرمت الشريعة الإسلامية إجراءات الحصر "المونويول" وهو أن تقوم سلطة ما يمنع غير طائفة معينة من بيع مادة بذاتها، أو مواد، وكل من شاركهم في بيعها تعاقبه، فهذا ظلم، وتسعير مخالف لشرع الله وتجب مراقبة الربح الحاصل منه، لأنه ينافي غاية الشريعة في حرية البيع، قال ابن القيم:" ومِنْ ذلك أنْ يلزم بأن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا أناس يخصون بذلك فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب. فهذا من البغي في الأرض والفساد، والظلم الذي يحبس به قطر السماء وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا، كان ذلك ظلمًا للناس ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلمًا للمشترين منهم (٢) . وعند المالكية تناول الباجي التسعير من خلال أوجه عدة تستهدف كلها قيام توازن تحميه السلطة الإسلامية بين احترام الإرادة وضمان الربح للتجار من جهة، وبين توفير حاجات الناس بتزويد السوق بما يحتاج إليه من جهة ثانية، وأهم ما يمكن أن تستشهد به من ذلك في موضوعنا هذا ما يلى:

المعتبر في ذلك ما عليه جمهور الناس فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد اليسير بحط السعر أمر من حطه باللحاق بهم، وإن زاد واحد، أو عدد قليل لم يؤمر الجمهور باللحاق بهم، والمقصود بهذا هم أهل السوق، أما الجالب فلا يمنع من أن يبيع بأقل من ثمن السوق.


(١) ابن القيم في الطرق الحكمية: ص٢٤٤، دون التقيد بالألفاظ.
(٢) نقلت هذه الجملة بالحرف لأهميتها من نفس المرجع السابق: ص٣٠، وهي منقولة أيضًا في كلام ابن القيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>