للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الثاني

دور العرف في الصدَّ عن شريعة الله

رأينا في المبحث السابق كيف كانت أعراف الأمم مقدَّسة عندها تقديسًا جعلها بمثابة القوانين والدساتير التي لا يخالفها مخالف ولا ينازعها منازع.

ولذا، فإنَّ هذه الأعراف والعوائد أصبحت جدارًا صلبًا يقف في وجه الشرائع المنزلة من عند الله، وكان الصراع يدور عبر التاريخ بين الشرائع الإِلهيَّة وحملتها من الرُّسل والأنبياء وأتباعهم، وبين الأعراف والعادات وسدنتها من الزعماء والرؤساء الذين يزعمون أن تراث الآباء والأجداد هو المقدَّس والمصان، ويأبون أن يمسَّه أيُّ تغيير أو تبديل.

لقد كانت الأعراف والعادات التي اختطها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين دينًا يتبع، وشرعة لا تخالف، وميراثًا يحرص عليه حرصًا عظيمًا يصلُ إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس وتهدر الأموال، وهذا ديدن البشرية عبر تاريخها الطويل {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (١) .

والمراد بالأمَّة التي وجدوا آباءهم عليها: الطريقة التي سلكوها والعادات والأعراف التي اعتادوها.

هكذا يرفضون الحقَّ من غير دليل ولا بيَّنة ولا برهان، وكلُّ ما في الأمر أن الآباء والأجداد كانوا على ذلك المنهج: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (٢) .

وهذه الأعراف والعادات يصنعها في كثير من الأحيان الطواغيت والظلمة المتنفذون في أقوامهم، ويجرون التعامل بها بما لديهم من النفوذ والسلطان {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (٣) .

والمراد بالشركاء أولئك الزعماء والقادة ورجال الفكر الذين يقولون القول فيصبح طريقة متبعة، فيكونون بذلك مشرَّعين يشرعون من الدَّين ما لم يأذن به الله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (٤) .


(١) سورة الزخرف: الآيات ٢٢-٢٥.
(٢) سورة البقرة: الآية ١٧٠.
(٣) سورة الأنعام: الآية ١٣٧.
(٤) سورة الشورى: الآية ٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>