للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويرى القرافي أنَّه لا يشترط تغيّر العادة في البدل الواحد، بل إذا انتقل العالم من بلد إلى أخرى وجب عليه مراعاة البلد الذي انتقل إليه، وفي هذا يقول: "ولا يشترط تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنَّا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم، ولو تعتبر عادة البلد الذي كنا فيه، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادَّة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلاَّ بعادة بلده دون عادة بلدنا " (١) .

ومَثَّل لهذه الأحكام المتغيَّرة بما رُوِىِ عن الإِمام مالك – رحمه الله تعالى – أنَّه إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض.

قال القاضي إِسماعيل: "هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد" (٢) .

ومن الذين تعرَّضوا لهذه المسألة ابن القيم – رحمه الله تعالى – فإنَّه عقد في كتابه "إعلام الموقَّعين" فصلًا كبيرًا لتغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيَّات والعوائد.

وقرَّر في هذا الفصل أن الجمود على الأحكام التي أصدرها أهل العلم في الماضي وفقًا للعرف والعادة السائدة في أيامهم أوقع الناس في الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، كما نسب إلى الشريعة الإِسلامية المباركة السمحة الظلم والقسوة، وكلُّ هذا بسبب الجمود على الأحكام مع تغيَّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وفي هذا يقول: "هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به" (٣) .

ثم استطرد لبيان خصائص الشريعة الإِسلامية، وكيف أن الجمود الذي أشار إليه أفقد هذه الشريعة خصائصها، استمع إليه يقول: "إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلُّها، ورحمة كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلُّها. فكلُّ مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإِن أدْخِلت فيها بالتأويل.


(١) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص ٢٣٣.
(٢) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص ٢٣٣.
(٣) أعلام الموقعين: ٣ /٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>