للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسول صلى الله عليه وسلم أتمُّ دلالة وأصدقها. وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي اهتدى المهتدون به، وشفاؤه التام الذي به دواء كلَّ عليل، وطريقة المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذَّة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكلُّ خير في الوجود فإنَّما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكلُّ نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا، وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطيَّ العالم رَفَع الله ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدَّنيا والآخرة (١) .

وإنِّما أطال الشيخ رحمه الله في بيان خصائص الشريعة ليبيَّن عظم جناية الذين جمدوا على الأحكام التي أصدرها الفقهاء السابقون مع تغيّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وقد أطال الشيخ في شرح ذلك كله وضرب له الأمثلة.

وطالب الشيخ ابن القيم الجوزية – رحمه الله تعالى – المفتي والعالم بمراعاة العرف دائمًا اعتبارًا وإسقاطًا، وحذَّر من الجمود على المنقول في الكتب، ودعا إلى التعرف على عرف السائلين، وعوائد الذين يُفْتَى لهم في الدين، وفي هذا يقول: مهما تجدَّد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك (٢) .

وعقَّب على هذا قائلًا: "فهذا هو الحقُّ الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين" (٣) .

وهاجم الشيخ بقوة أولئك الذين يفتون الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم (٤) .

ومن فعل ذلك فقد ضلَّ وأضلَّ وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّبَ الناس كلَّهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتب الطبّ على أبدانهم.


(١) إعلام الموقعين: ٣ /٥.
(٢) أعلام الموقعين: ٣ /٩٩.
(٣) إعلام الموقعين: ٣ /٩٩.
(٤) إعلام الموقعين: ٣ /١٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>