للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثلًا كان أبو حنيفة لا يجوز بيع النحل ودود القز، لأنه كان لا يعتبرهما "مالًا " قياسًا على سائر هوام الأرض كالوزغ والضفادع وكانت العلة في عدم اعتبار مثل هذه الأشياء موضوع عقد هي عدم إمكان الاستفادة منها وبالتالي تضرر أحد المتعاقدين وربح الآخر بطريقة غير مشروعة إلا أن محمد بن الحسن الشيباني لاحظ إمكان الاستفادة منهما واعتبرهما " مالًا " نظرًا لتعامل الناس وجعلها موضوع عقد للبيع والشراء (١) .

والحري بنا أن نبين هنا أن اعتبار بعض العقود كالاستصناع مثلًا في ميدان الاجتهاد قد نتج عن تطبيق منهج ترك القياس بسبب العرف الذي يسمي ذلك عند الحنفية استحسانًا (٢) . وعندما يقومون بإيضاح هذا الموضوع يصيرون إلى وضع قاعدة " أن العرف والتعامل يعتبران كدليل لترك القياس وتخصيص النص" (٣) . والحال أن هذا النوع من التصريحات وإن كان يشعر بتقدم العرف كمصدر على القياس فإن ذلك يكون مخالفا بالبداهة لترتيب الأدلة في كتب أصول الفقه. ولذا بدل أن يصار إلى إمكان تقديم العرف على جميع أنواع القياس تمسكًا بشكل مطلق بمثل هذه التصريحات فإنه يستحسن التوجه إلى تثبيت معاني مفهوم " القياس" وبالأخص عند الأحناف وفي الحقيقة لما نمعن النظر في الموضوع بدقة نجد أن رجحانية العرف على القياس المتكلم عنها سابقًا لا تتحقق بصفة عامة في إطار " القياس الأصولي " (القياس القانوني gesetresanalogie) وإنما تتحقق في إطار القياس بمعنى " القاعدة العامة " (القياس الحقوقي rechanalogie) أو في إطار مقتضى الدليل العام (٤) . أما لو نمعن النظر في البحث عن العامل الحقيقي الدافع إلي وضع مثل هذه القاعدة (أي " أن العرف يترك به القياس ويخصص به العام إذا كان ظنيًّا ") نلاحظ أنهم يقصدون هنا التعامل الجاري منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير والذي يرجع في حقيقته إلي مفهوم الإجماع (٥) . وبديهي أن هذا النوع من الإجماع راجع في حقيقته إلى مفهوم " السنة " إذن، في مثل هذه الحالات (كما كان في تجويز عقد الاستصناع) يكون مصير الاستدلال إلى احتمالين:


(١) الموصلي، الاختيار لتعليل المختار: ٢ /٢٥؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص ١٠٣.
(٢) انظر: النسفي (أبو البركات حافظ الدين) ، منار الأنوار، استنانبول، ١٣٠٨هـ، ص ٢٨٥؛ ابن نجيم، البحر الرائق: ٦ /١٨٥.
(٣) أبو سنة، العرف والعادة، ص ٢٧، ٢٨-١٠١.
(٤) شلبي (مصطفى) ، تعليل الأحكام، مصر، ١٩٤٧م، ص ٣٣٧ وما بعدها مع أن كلمة " القياس " قد استعملت في كتب الأصول في معنى " القياس الأصولي" غالبا، فإنه يشاهد في عبارات كثيرة أنها قد استعملت أيضا في معنى " القاعدة العامة "، انظر على سبيل المثال: الجصاص، أصول الفقه (مخطوط) ، ق ٢٧١/ب، ٢٧٢/أ: الدبوس، تقويم الأدلة (مخطوط) ، ق ١١٩/أ، ١١٩/ب، ٢٢٠ /أ، ٢٢٦/أ؛ البزدوي الأصول: ٣ /٢٤٩؛ السرخسي، أصول: ٢ /١٥٥ انظر في: "rechsanalogie"، " gesetranalogie" GENY (Francois) ، Methode d,interpretation et sources en Droit prive prive positif، Paris ١٩٥٤، ١ /١٠٥ et s. ١١ /١٣١.
(٥) انظر: السرخسي، أصول: ٢ /٢٠٣؛ الغزالي، المنخول: ص ٣٧٦؛ الآمدي، الأحكام: ٤ /١٣٨؛ أبو زهرة، أصول الفقه، ص ٢٧٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>