للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما سبق أن أشير فإن تاريخ التشريع الإسلامي قد مر على أدوار لها مميزات خاصة. وهكذا، فإن فقهاء الإسلام الذين جاؤوا عقب أدوار الاجتهاد لما لم ينطلقوا في تحليلاتهم الفقهية من منطلق الاجتهاد أي أنهم لم يتوصلوا إلى الحلول الفقهية عن طريق استخراج الأحكام من نصوصها بالاجتهاد، وإنما توصلوا إليها بتطبيق الأحكام الفقهية الموروثة عن المجتهدين السابقين، وبعبارة أخرى لما شكلت المذاهب الحقوقية المتكونة آنذاك: مصدرًا شكليًّا (formellesource) للحقوق (١) . فإن العرف أخذ مكانته في الحياة الحقوقية بشكل أشمل وأوضح. لأن الأعراف قد تبدلت بتبدل الأزمان كما أصبحت أحكام كثيرة كانت تستند إلى العرف بعيدة عن الإقناع وأداء المطلوب أثناء تطبيق الحقوق.

إن تطبيق القانون – كما بينا سابقًا – يكون بيت القصيد في الأصل سواء بالنسبة إلى أدوار الاجتهاد أو غيرها. ولكنه، - لما تطرقنا إلى أدوار العرف والعادة أثناء عملية الاجتهاد تحت عنوان " دور العرف والعادة في منهجية القانون " – فإن ما سنتناوله الآن تحت عنوان (دور العرف) في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف يتعلق بشكل أزيد بالأدوار التي تلت أدوار الاجتهاد؛ أما مضمون العنوانين الآخرين فيتعلق سواء بأدوار الاجتهاد أو الأدوار التي تلتها.

٢-٢-١ في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف:

إذا أمكن الإدراك باختلاف فهم النصوص لاختلاف الزمن عند استنادها إلى العرف، أدركنا بسهولة بأن الأحكام المستحصلة عن طريق الاجتهاد يمكن أن يطرأ عليها التغير مع مرور الزمن حالة استنادها إلى العرف، كما يمكن فهم دور العرف في تعيين نتيجة هذا التغير؛ لأن أثر العرف فيما توصل إليه المجتهدون من الأحكام حقيقة لا تنكر (٢) . وحتى لسبب ترجيح رأي المجتهد الذي يكون مطلعًا على أعراف وتقاليد زمانه بصورة يقينية، نرى فقهاء المذهب الحنفي يرجِّحون في الأحكام المتعلقة بالقضاء مذهب أبي يوسف لما له من تجربة كبيرة واطلاع واسع في حوادث الحياة وفي ميدان العرف والعادة (٣) . كما روي عن محمد بن الحسن الشيباني أيضًا بأنه كان يلجأ تارة إلى أصحاب الحرف لأخذ المعلومات عنهم فيما يتعلق بتعاملهم ونوعية تعاقدهم بينهم (٤) .

وبناء على ذلك، فإن البقاء متجمدًا بصفة مستمرة على ما نقل من المجتهدين السابقين، يكون – بدون شك – عبارة عن الانحراف عن أسس الإسلام وعن عدم المعرفة بمقاصد المجتهدين (٥) . ولذا، فإن المحققين من الفقهاء المتأخرين الذين أدركوا إمكان حصول نتائج مغايرة لأسس الإسلام وأهدافه السامية من تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف بعينها فضلًا عن كونها مقنعة، أولوا أهمية خاصة لهذا الموضوع.


(١) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: ٢ /١٢٨؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص ١٠٤.
(٢) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: ٢ /١٢٨؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص ٣١.
(٣) نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين.
(٤) نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص ١٠٤.
(٥) القرافي، أنوار البروق في أنوار الفروق، مصر ١٣٤٧ هـ، ١ /١٧٥-١٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>