للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالقرافي مثلًا، يصرح بأن الإفتاء بالأحكام المستندة إلى العوائد بعد تغير ما مخالف للإجماع ويوصف ذلك بأنه " جهالة في الدين " ممن يقولون: " إننا مقلدون، ليس لنا إلا أن نفتي بما في الكتب من الأحكام المنقولة عن المجتهدين " وبين أن تغيير هذه الأنواع من الأحكام بشكل يوافق للعوائد المستجدة لم يكن إنشاء اجتهاد مناقض لاجتهادات المجتهدين، بل على العكس فهو عمل بقاعدة أجمع على وجودها في الفقه الإسلامي جميع المجتهدين كما أجمعوا على ضرورة السير في ظلها (١) .

وكذلك، فإن ابن عابدين الذي أشار بشكل مفصل إلى أهمية العرف في بناء الأحكام وضرورة رعاية المجتهد للتغيرات الطارئة على الأحكام بالتغيرات الطارئة على الأعراف مع تبدل الأزمان والأحوال في المحيط والمجتمع، أعطى أمثلة عديدة في هذا الميدان، وجعل هذه النقطة سببًا دافعًا إلى تأليف رسالته المتعلقة بالعرف (٢) .

إننا نوافق الأستاذ الزرقاء مبدئيًّا في ما ذهب إليه – بعد أن تطرق إلى قضية " تبدل الأحكام بتبدل الأزمان " بشكل واسع – من عدم صحة اعتبار هذا الموضوع من صميم نظرية العرف، بل، ضرورة تناولها في إطار نظرية المصالح المرسلة (٣) . إلا أننا في هذا الباب لا نتناول العرف كنظرية وإنما من أجل بيان دوره ومكانته في أدب الفقه الإسلامي، ولذا أحسسنا بالحاجة إلى الإشارة إلى دور العرف في تبدل وتغير الأحكام الاجتهادية. في الحقيقة أن التغير الملحوظ في الأحكام بتغير الأزمان لا يمكن إرجاعه كليًّا إلى تغير العرف، وإن كان تأثير التغيرات في العرف في هذا الميدان لا يمكن إنكاره أيضًا.

سنعطي مثالًا لهذا النوع من أدوار العرف قضية قبض المهر: إن القاعدة الفقهية تقضي بأن الحاكم يجب عليه أن يستمع إلى كل دعوى ترفع إليه يقضي للمدعي أو عليه بحسب ما يثبت لديه، ولكن الفقهاء اعتبروا أن تزف الزوجة قرينة على قبضها – على الأقل جزءًا من – معجل مهرها استنادًا إلى العادة المطردة في ذلك، وحكموا بعدم استماع القاضي دعواها وبردها دون أن يسأل عنها الزوج إذا ادعت أن زوجها لم يدفع إليها شيئا من معدل مهرها. لأن دعواها هذه تعتبر مما يكذبه ظاهر الحال بعد الدخول إذا أخذت بعين الاعتبار العادة القائمة في ذلك فلا تسمع (٤) . إلا أن تلك العادة قد طرأ عليها التغيير بمرور الزمن وأصبحت كثير من النساء قد يزففن دون قبض شيء من الصداق تيسيرًا على الزوج وذهب الفقهاء المتأخرون إلى تغير هذا الحكم المستند إلى العادة، كما أيده الشاطبي بقوله: " وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضًا بناء على نسخ تلك العادة، ليس باختلاف في حكم (٥) . وكذلك يقول القرافي بعد الإشارة إلى العادة القائمة في عصر مالك: " واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فيصبح القول قول المرأة مع يمينها في عدم القبض لاختلاف العوائد (٦) .


(١) القرافي، الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، باب، ١٩٦٧م، في جواب السؤال: ٣٩ ص ٢٣١. انظر التعبيرات القريبة منها: الطرابلسي، معين الحكام، مصر، ١٣٥٧هـ، ص ١٥٢-١٦٠.
(٢) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة، ٢ /١٢٣-١٢٦.
(٣) الزرقاء، المدخل الفقهي: ٢ /٣١٩ - ٣٣٥.
(٤) الزرقاء، المدخل الفقهي: ٢ /٢١٠، نقلًا عن ابن عابدين، رد المحتار: ٣ /١٨٣؛ وتنقيح الفتاوي الحامدية له أيضًا: ١ /٢٠.
(٥) الشاطبي، المرافقات: ٢ /٢٨٦. ويلاحظ هنا أن الشاطبي بنصه يكتبه، ليس باختلاف في الحكم، ومعنى: ليس باختلاف في الخطاب، وذلك في إطار المفاهيم الأصولية، أما الحكم في معنى النتيجة القانونية التي ستطبق على الواقعة القانونية، فالشاطبي أيضًا يشير إلى تغيره لكلمته هذه، ولذلك ذكرناه في صدد التأييد.
(٦) القرافي، الأحكام، في جواب السؤال: ٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>