للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هناك حديث آخر اعتاد المؤلفون الإشارة لإثبات حجية العرف وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان التي اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخل زوجها وسألته عن حكم أخذها من مال زوجها خفية، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (١) إلا أنه بدل أن يفسر لفظ " المعروف " هنا وفي الأماكن مثله بأنه العرف والعادة مباشرة، ينبغي المصير إلى فهمه بأنه بمعنى " في إطار الحدود المعقولة والمناسبة " ومن البديهي أن يكون للعرف والعادة دور مساعد في مثل هذه الحالات (٢) .

والجدير بالذكر أن البخاري خصص بابًا في صحيحه للأمور المتعارفة بين الناس وعنونه " باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسنتهم على نيتهم ومذاهبهم المشهورة " (٣) ، ويقول العيني في تعليقه على هذا الباب: " حاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف العادة " (٤) .

٤-٢- الأدلة العامة:

إذا محص الباحث النظر في مبادئ التشريع الإسلامي ومسيرة تطوره في وضع أحكامه يستطيع أن يقوم بتثبيت مقطعين رئيسيين في موضوع العرف:

* المقطع الأول: مراعاة التشريع الإسلامي للعرف والعادة وذلك لأن دراسة استقرائية للمناهج التشريعية التي سلكها الإسلام وموقفه من العرف والعادة في التشريع تمكن الباحث من البت في أن الإسلام راعى أعراف وعادات البيئة التي ظهر فيها وحتى إنه لم يقف عند عدم مجابهة الوقائع الاجتماعية التي لا تتنافى مع مبادئه فحسب، بل أسبغ عليها أيضا الصفة الشرعية كما سبق الإشارة إليه في الباب الأول (انظر: ١-١) ، إلا أن هناك ظاهرة أخرى يمكن أن تؤدي بالباحث إلى تردد في قبول ذلك وهي أن التشريع الإسلامي ألغى كثيرًا من العادات أو عدلها بشكل يتناسب مع مبادئه وهذا الموقف السلبي مع أنه لا يظهر إلا في حالات خاصة من معارضة تلك العادات للمبادئ الإسلامية فثمة دليل أقوى للاقتناع بمراعاة الإسلام للعرف والعادة وهو صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، وهذا ما تدل عليه النصوص القطعية منها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (٥) , {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (٦) ومن خلال هذه الخاصية للإسلام نتوصل بالبداهة إلى نتيجة أن الإسلام دين الإنسانية جمعاء مهما اختلفت عاداتها عن بعضها البعض وما من شك في أن البشرية بأسرها لا يمكن توحيدها في نمط واحد من الحياة كما أن الإسلام لا يدعو إلى ذلك ولا يستهدفه فضلًا عن تباينه مع المبادئ الإسلامية السمحة وحيلولته دون التقدم والرقي وبعبارة أخرى، فإن وجود اختلاف في بعض العادات غير المنافية للأسس الإسلامية في الجغرافية الإسلامية نتيجة طبيعية لا يمكن الاحتراز عنها طالما الإسلام يخاطب الناس جميعًا في كل زمان (٧) .


(١) العيني، عمدة القاري، مصر، ١٣٤٨ هـ، ١٢ /١٦- ١٧، الشوكاني، نيل الأوطار، مصر، ١٣٥٧ هـ، ٧ /١٣١؛ أبو زهرة، مالك: ص ٤٢١.
(٢) انظر الباب الأول: ٢-٢-٢ وخاصة الهامش رقم ٧٦.
(٣) البخاري، الجامع الصحيح، البيوع، ص ٩٥.
(٤) العيني، عمدة القارى: ١٢ /١٦.
(٥) [سورة سبأ: الآية ٢٨] .
(٦) [سورة الأحزاب: الآية ٤٠] .
(٧) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة، بدون تاريخ (تاريخ صبح الجزء الثاني ١٤٠١ هـ) ، ١ /٣٢٠؛ المحمصاني، فلسفة التشريع: ص ٢٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>