للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا نود أن نقتبس باختصار من العلامة الطاهر بن عاشور بعض ما ذكره في هذا الباب بناء على أهميته في تسليط الأضواء على الحقائق الكامنة فيه:

" فعموم الشريعة سائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلاحية وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين.

الكيفية الأولى: إن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.

الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة.

فلا يجدر بحال أن يكون معنى صلاحية التشريع للبشر أن الناس يحملون على اتباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان والتشريع ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريع بين ظهرانيهم سواء لاءم ذلك أحوال بقية الأمم والعصور أم لم يلائم فتكون صلاحيتها مشوبة بحرج ومخالفة ما لا يستطيع الناس الانقطاع عنه، ويعلل معنى الصلوحية بأن يعمل الناس بها في كل عصر فلا يهلكوا ولا يعنتوا، إذ لو كان هذا هو معنى صلوحية الشريعة لكل زمان ومكان لما كان هذا من مزايا شريعة الإسلام وخصائصها إذ لا نجد في شريعة من الشرائع المتبعة أحكامًا لو حمل الناس عليها لهلكوا أو صاروا فوضى إذن يكون في مستطاع أهل كل شريعة أن ينتحلوا شريعتهم وصف الدوام.

فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد، ولذلك كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد " (١) .

" قد يستكن في معتقد كثير من العلماء قبل الفحص والتغوص في تصرفات التشريع أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس، والتحقيق أن للتشريع مقامين:


(١) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص ٩٢-٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>