للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقام الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها.

المقام الثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس وهي الأحوال المعبر عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} والتقرير لا يحتاج إلى القول فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلا عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال، أو تحريض على التناول، وفيما عدا تلك الأسباب ونحوه يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس، فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر وقد تواتر هذا المعنى تواترًا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته.

ولا يستثنى من دلالة السكوت على التقرير إلا الأحوال التي دل العقل على إلحاقها بأصول لها حكم غير الإباحة وهي دلالة القياس بمراتبها.

وليس مرادنا بالتغيير أحوال العرب خاصة ولا بالتقدير تقرير أحوالهم كذلك بل مرادنا تغيير أحوال البشر وتقرير أحوالهم سواء كانوا العرب أم غيرهم وذلك أن جماعات البشر كانوا غير خالين من أحوال صالحة هي بقايا الشرائع أو النصائح أو اتفاق العقول السليمة " (١) .

* المقطع الثاني: عدم إمكانية القول بأن نصوص القرآن والسنة تعترف صراحة بكون العرف مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي مباشرة والمناقشات التي وردت في هذا المضمار حول الآيات والأحاديث التي يستدل بها على حجية العرف ينبغي مراجعتها للتثبت من ذلك حتى أن هذه المناقشات لم تحظَ باهتمام العلماء إلا في عصور متأخرة وكاد الأصوليون أن لا يولوا أي اهتمام لموضوع العرف بين الأدلة الشرعية (انظر: الباب الأول، ١-٢) .

ورغم أن هذا المقطع يبدو للوهلة الولى منافيًّا للأول وليس الأمر كذلك بل هو مكمل له لأن الغاية المتوخاة من مراعاة العرف في التشريع الإسلامي ليست إضفاء قدسية للعرف واعتباره مصدرًا يسيطر على قيمة الذاتية وإنما هي قضاء حاجات الناس وتطبيق مبدأ "اليسر".

فالإسلام الذي تميز بطابعه الانقلابي (٢) وأنه الدين الأخير للبشرية كان عليه أن يتخذ موقفًا سلبيًّا من الأعراف والعادات المتنافية مع ما أشرنا إليه سابقًا من روح تشريعية له ولو اعتبر التشريع الإسلامي العرف مصدرًا تشريعيًّا بصورة مباشرة لأدى ذلك إلى إفساح المجال للطعن فيه بتناقضه الذاتي فمثل هذا الاعتبار في عهد تبليغ النصوص لا يتفق مع الهدف المنشود لها، أما بالنسبة للعهود المتعاقبة فكان من البديهي أن يراعى العرف مثل مراعاته في عهد تبليغ النصوص وفق سير الأحداث ومجراها الطبيعي حيث إن المسلمين مطالبون بحل ما سيستجد لهم من وقائع ومسائل وفق النصوص الشرعية وروحها ومن الملاحظ أن هذه الخاصية للتشريع الإسلامي برزت بشكل واضح في اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك طريقهم في فهم النصوص وتقييمها (٣) .


(١) نفس المرجع: ص ١٠٢- ١٠٤.
(٢) انظر مثلًا: [سورة البقرة: الآية ١٧٠] ؛ و [سورة المائدة: الآية ١٠٤] ، و [سورة هود: الآية ٨٨] .
(٣) الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص ٨١، ١٢٤، ١٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>