للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الثاني بما يأتي:

أولًا: إن الأحاديث التي ذكروها لا تدل على الدعوى المطلوبة، وذلك لأن محل النزاع في مدى لزوم الهبة قبل القبض في حين أن دلالة تلك الأحاديث ليست ظاهرة في حرمة الرجوع قبل القبض، بل سياقها يدل بوضوح على أنها في الرجوع بعد القبض، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) ظاهر في أن المراد به الهبة بعد القبض، وذلك لأن التمثيل الذي ذكره يدل على ذلك، فالقيء سواء كان من إنسان أو من كلب قد خرج منه ووقع على الأرض – مثلًا – فالعودة إليه محرمة بالنسبة للإِنسان، وكذلك الحديث يدل على أن هذه البشاعة إنما تتحقق إذا رجع الواهب أو المتصدق بعد القبض، أما قبل القبض وإن كان مستنكرًا لكنه لا يصل إلى هذه الدرجة عرفًا وشرعًا.

ويدل على هذا الفهم أن الخلفاء الراشدين وأكثر الصحابة ذهبوا إلى أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فلو كان المراد بالحديث السابق الهبة قبل القبض لما قالوا مثل ذلك.

ومن جانب آخر إن الحديث السابق في بيان شناعة الرجوع عن الهبة والصدقة ذوقيًا وسلوكيًا، وذم ذلك وحرمته دينيًا، وفيما بينه وبين الله، ولا يستلزم من ذلك اللزوم القضائي، وبعبارة أخرى إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن شناعة هذا العمل من خلال تلك الصورة المجسمة الخطيرة المقززة التي لا يرضى بها كل ذوق سليم، كل ذلك للزجر من الرجوع وبيان أن ذلك لا يتناسب مع أخلاق المؤمن وسموه وعزته وكرامته، لكنه لو رجع قبل القبض، أو بعد القبض عند بعض العلماء (١) لما ترتب عليه حكم قضائي ملزم.


(١) فتح الباري: ٥/٢٣٥، ٢٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>