قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله: والله والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم: من حلف بالطلاق، فالمراد تعليق الطلاق وأطلق عليه الحلف لمشابهته في اليمين في اقتضاء الحث والمنع، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله كاذباً متعمداً، والكذب يدخل القضية الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة، ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا: وما أشبهه فليس الإخبار بها عن أمر خارجي، بل هي لإنشاء القسم فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما أن يتعلق بالمستقبل كقوله: إن فعل كذا فهو يهودي، والثاني يتعلق بالماضي كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهودي، وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة لكونه لم يذكر فيه كفارة، بل جعل المرتب على كذبه قوله فهو كما قال. قال ابن دقيق العيد: ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية لكونه يتخير معنى فصار كما لو قال: هو يهودي، ومنهم من قال: إن كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر، وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضي بالكفر حين قدم على الفعل. وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذباً، والتحقيق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر، وإن قصد حقيقة التعليق فينظر، فإن كان أراد أن يكون متصفاً بذلك كفر، لأن إرادة الكفر كفر، وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيهاً؟ الثاني هو المشهور، وقوله: كاذباً متعمداً؛ قال عياض تفرد بزيادتها سفيان الثوري، وهي زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف المتعمد إن كان مطمئن القلب بالإيمان، وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر، وإن قاله متعمد اليمين بتلك الملة لكونها حقاً كفر، وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتمل. (قلت) وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضاً. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه "من قال: إني برئ من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً لم يعد إلى الإسلام سالماً" ويحتمل أن يكون المراد بالكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم، وكأنه قال فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال، ونظيره "من ترك الصلاة فقد كفر" أي استوجب عقوبة من كفر. وقال ابن المنذر: قوله: فهو كما قال ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب ككذب المعظم لتلك الجهة. انتهى ص ٤٣٣ جـ ١٠ وقال النووي: في رواية (فمن كان حالفاً فليحلف بالله) وفي رواية: (لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم) قال العلماء: الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يضاهى به غيره، وقد جاء عن ابن عباس: "لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر" فإن قيل الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق" فجوابه أن هذه كلمة تجرى على اللسان لا يقصد بها اليمين، فإن قيل فقد أقسم الله تعالى بمخلوقاته كقوله تعالى: "والصافات، والذاريات، والطور، والنجم" فالجواب أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته تنبيهاً على شرفه. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكراً ولا آثراً. (ذاكراً): قائلاً لها من قبل نفسي (آثراً): حالفاً عن غيري، وفي هذا الحديث إباحة الحلف بالله تعالى وصفاته كلها، وهذا مجمع عليه، وفيه النهي عن الحلف بغير أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، وهو عند أصحابنا مكروه ليس بحرام. أهـ ص ١٠٦ جـ ١١ والطواغي: الأصنام، واحدها طاغية. وكل ما جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طغى، فالطغيان المجاوزة للحد، وقيل يجوز أن يكون المراد بالطواغي هنا من طغى من الكفار وجاوز القدر المعتاد في الشر وهم عظماؤهم. قال تعالى: "واجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" (من سورة الزمر). "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به" (من سورة النساء). الآية. الطاغوت: الصنم أو الشيطان. أهـ.