للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والحِكَم ونَصْب الشرع بحسب مصالح العباد، فإن الشارعَ ينظرُ إلى المحرَّم ومفسدته، ثم ينظر إلى وازِعِه وداعيه، فإذا عظُمَتْ مفسدتُه رتَّبَ عليه من العقوبة بحسب تلك المفسدةِ، ثم إن كان في الطِّباعِ التي ركَّبَها الله تعالى في بني (١) آدم وازعٌ عنه اكتفى بذلك الوازع عن الحَدِّ، فلم يُرَتِّب على شُرْب البول والدم والقيء وأكل العَذِرة: حدًّا، لما في طباع الناس من الامتناع عن هذه الأشياء، فلا تكثُرُ مواقَعتُها بحيث يدعو إلى الزجر (٢) بالحَدِّ، بخلاف شرب الخمر والزنا والسَّرقة، فإن الباعثَ عليها قَوِيٌّ، فلولا ترتيبُ الحدود عليها لعمَّتْ مفاسدُها وعظُمتِ المصيبةُ بارتكابِها.

وأما النُهبة فلم يرتبْ عليها حدًّا، إما لأن بواعثَ الطِّباع لا تدعو إليها غالبًا؛ خوفَ الفضيحة والاشتهار وسرعة الأخذ، وإما لأن مفسدَتَها تندفعُ بإغاثة الناس، ومنعِهم المُنتهبَ، وأخذهم على يديه.

وأما الرِّبا فلم يرتَبْ عليه حَدًّا؛ فقيل: لأنه يقعُ في الأسواق وفي المَلأِ، فوكلتْ إزالتُهُ إلى إنكار الناس، بخلاف السرقة والفواحش وشرب الخمر؛ فإنها إنما تَقَعُ غالبًا سرًّا، فلو وكلت إزالتُها إلى الناس لم تُزَل.

وأحسنُ من هذا أن يقالَ: لما كان المُرابي إنما يُقْضَى له برأس ماله فقط، فإن أخذَ الزيادةَ قُضِيَ عليه بردِّها إلى غريمه، وإنْ لم يأخذْها لم يُقْضَ له بها، كانت مفسدةُ الرِّبا منتفيةً بذلك، فإن غريمه لو شاء (٣) لم يُعْطِهِ إلاّ رأسَ ماله، فحيث رضي بإعطائه الزِّيادة فقد رضي باستهلاكها وبذلها مجانًا، والآخذُ لها رضِيَ بأكل النَّارِ.


(١) (ق وظ): "ابن".
(٢) (ق وظ): "الرد".
(٣) (ق): "سأله".