لأنَّ اللعنَ إساءةٌ، بل من أبلغ الإساءة، والشفاعةُ إحسانٌ، فالمُسيءُ في هذه الدَّار باللعن يسلبه اللهُ الإحسانَ في الأخرى بالشفاعة، فإن الإنسان إنما يحصُدُ ما يزرعُ، والإساءةُ مانعةٌ من الشَّفاعة التي هي إحسان.
وأما منعُ اللعن من الشهادة فإنَّ اللَّعنَ عداوةٌ، وهي منافيةٌ للشَّهادة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سيِّدَ الشفعاء وشفيعَ الخلائق؛ لكمال إحسانه ورأفته ورحمته بهم - صلى الله عليه وسلم -.
فائدة
السِّرُّ -والله أعلم - في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر وعُمر وعثمان: أن عَلِيًّا لو تولَّى الخلافة بعد موته لأوشكَ أن يقولَ المُبْطِلون: إنه مَلِكٌ وَرِثَ مُلْكَهُ أهلُ بيته، فصان اللهُ منصبَ رسالته ونبوَّته عن هذه الشُّبهة، وتأمَّلْ قولَ هِرَقْلَ لأبي سفيانَ: هل كان في آبائه مَنْ مَلِكَ؟ قال: لا، فقال له: لو كان في آبائه مَلِكٌ لقلتُ: رجلٌ يطلبُ مُلْكَ آبائه (١). فصان اللهُ منصبَه العَلِيَّ من شبهة المُلْكِ في آبائه وأهل بيته وهذا -والله أعلم- هو السِّرُّ في كونه لم يُورَثْ هو والأنبياءُ، قطعًا لهذه الشُّبْهة، لئلا يظنَّ (ق/٢٨٦ ب) المُبْطِلُ أن الأنبياءَ طلبوا جمعَ الدنيا لأولاهم ووَرثَتِهِم كما يفعلُهُ الإنسانُ من زهده في نفسه وتوريثه مالَهُ لولده وذُرِّتَّتِهِ، فصانهم اللهُ من ذلك، ومنعهم من توريث ورثَتِهم شيئًا من المال، لئلا تتطرَّقَ التهمةُ إلى حُجَج الله ورسله، فلا يبقى في نُبُوَّتِهم ورسالتهم شبهةٌ أصلاً.
(١) في حديث أبي سفيان مع هرقل، أخرجه البخاري رقم (٧)، ومسلم رقم (١٧٧٣) من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.