وفيه وجهٌ آخر أحسن من هذا، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَبَّه دين الأنبياء الذي اتفقوا عليه من التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريكَ له، والإيمانُ به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه = بالأب الواحد؛ لاشتراك جميعهم فيه وهو الدينُ الذي شرعه اللهُ لأنبيائه كلِّهم، فقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: ١٣].
وقال البخاريُّ في "صحيحه": باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد، وذكر هذا الحديث (١)، وهذا هو دينُ الإسلام الذي أخبر اللهُ أنه دينُ أنبيائِهِ ورسلِهِ من أولهم نوح إلى خاتَمِهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو بمنزلة الأب الواحد.
وأما شرائعُ الأعمال والمأمورات فقد تختلفُ، فهي بمنزلة الأمهَّات الشَّتَّى، فإنّ لقاحَ تلك الأمهات من أبٍ واحد، كما أن مادَّة تلك الشرائع المختلفة من دين واحد متفق عليه، فهذا أولى المعنيين بالحديث، وليس في تباعد أزمنتهم ما يوجبُ أن يُشَبِّهَ زمانَهم بأمهاتهم، ويجعلون مختلفي الأمهات لذلك، وكون الأم بمنزلة الشريعة والأب بمنزلة الدين، وأصالة هذا وتذكيره وفرعيَّه الأم وتأنيثها، واتحاد الأب وتعدد الأم، ما يدلُّ على أنه معنى الحديث، والله أعلم.
فائدة
في قوله تعالى:{أَسْرَى بِعَبْدِهِ} دون: "بَعَثَ بعبده"، و"أرسل به"
(١) لم أجد الترجمة التي ذكرها المصنف في الصحيح، وذكر البخاريُّ هذا الحديث في موضعين متتاليين في باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... } "الفتح": (٦/ ٥٤٩ - ٥٥١).