للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يفوته حظُّه من الله والدَّار الآخرة، فنهى في موضعٍ عن الالتهاء بها، وأخبر في موضعٍ أَنَّها فتنة، وأخبر في موضع آخر أَنّ الذي يقرِّب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح، لا أموالهم ولا أولادهم، ففي ضِمْن هذا النَّهْي عن الاشتغال بها عما يُقرِّب إليه، ومعلومٌ أَنَّ اشتغال الناس بأموالهم، والتباهي (١) بها أعظم من اشتغالهم بأولادهم، وهذا هو الواقع، حتَّى إنَّ الرجلَ ليستغرقه اشتغاله بماله؛ عن مصلحةِ ولده وعن معاشرتِهِ وقربِهِ.

وأما تقديمهم على الأموال في تَيْنك الآيتين؛ فلحكمةٍ باهرة وهي: أَنَّ آية (٢) براءة متضمِّنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أنَّ تصوُّر المجاهد فراقه أهله، وأولاده، وآبائه، وإخوانه، وعشيرته، يمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقة ماله، فإن تصوَّر مع هذا أن يُقتل فيفارقهم فراقَ الدَّهر، نفرت نفسُه عن هذه (٣) أكثرَ وأكثرَ، ولا يكاد عند هذا التصوُّر يخطر له مفارقة ماله، بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال! فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.

وتأمُّل هذا الترتيبِ البديع في تقديم ما قدَّم وتأخير ما أخَّر؛ يُطلعك على عظمةِ هذا الكلام وجلالته.

فبدأ أولاً بذكر أصول العبد، وهم آباؤه المتقدِّمون طبعاً وشرفاً ورتبة، وكان فخرُ القوم بآبائهم ومحاماتهم عنهم أكثر من محاماتهم


(١) (ق): "والتهاؤهم".
(٢) ليست في (ظ).
(٣) (ق): "هذه الفرقة".