إن الشعور العام بين الناس ليحكي بأن العالم اليوم قد قطع مراحل شاسعة في طريق التقدم الحضاري والصعود المادي، فسارعت همم الناس تترى كالبارع الذكي، والنشط المتوقد في اللهف وراء التقدم الصناعي والحضاري ونحوهما، ولكن هذا كله كان على حساب إيجاد المرء الصالح التقي والبار الوفي، فتقدمت الصناعة وتخلفت الروح، استطالت المادة واستكان الالتزام بالدين، حتى نشأ من هذا الضمور في الوعي تفاوت مقلق كان سبباً ولا شك في اختلال سير القافلة المسلمة واعتلالها، واتزانها وإبصارها الواعي بما تقبل عليه وما تحجم عنه، ثم تجتال القنوط آمال لفيفٍ من العلماء والمفكرين بعد أن اعتلى جوارهم من القحط الروحي الذي يسود أرجاء المسلمين بصورة لافتة.
إن التدين الحقيقي هو الإيمان بالله، والشعور بخلافته في الأرض قلباً وقالباً، والتطلع إلى السيادة الشرعية التي اقتضتها هذه الخلافة، بيد أن ذلك لا يتم إلا بتطويع كل ما جعله الله وسيلة مشروعة؛ لتحقيق هذا المفهوم وسط دنيا ينبغي أن يحكمها المجتمع المؤمن باسم الله وعلى بركة الله وفضله، من خلال الحكم بما أنزل الله شريعة ومنهاجاً، وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتذليل السبل في الدعوة إلى الله جلَّ وعلا، والجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته، وبمثل هذا يُقضى على الجفوة بين مفهومي الحضارة والإسلام، ويرأب الصدع، وتُسد الثلمة، لتصل سفينة المجتمع المسلم الماخرة إلى شاطئ العز والتمكين، كما أنه يجب أن يكون واضحاً جلياً تقرير أن الفضائل والعبادات التي شرعها الله لنا لا تعوق ازدهار الحياة وتقدمها المادي وسط المجتمعات المسلمة؛ لأن الإنسان عقل وقلب، ومن يظن أن صحوة القلب لا تتم إلا مع خمول الفكر وتهميش الدنيا من كل جوانبها، فهو مخطئ خطأً فاحشاً، كما أن من يظن بأن سيادة العقل وبلوغ الأرب في التقدم المادي لا يتم إلا بتحنيط الإيمان بالله، وفصله عن واقع الحياة، لهو مخطئ أيضاً خطيئة كبيرة.
ولذا فإن زكاة الروح قد تتم بدون دمار الجسد، وضمان الآخرة والتشمير لها قد يتم بدون ضياع الدنيا وخسرانها، ولقد صدق الله حين قال:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:٧٧] .