للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسائل في السفر]

الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل مواسم الخيرات لنا مربحاً ومغنماً، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمته طريقاً وسُلَّماً، له الحمد يُطاع فيشكر، ويعصى فيغفِر، لا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا جبل ما في وَعْره، ولا بحر ما في قعره، له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ما خاب مَن رجاه، ولا أفلح مَن قلاه، بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الأتقياء البررة، وعلى أصحابه ومن سار على طريقهم واتبع نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ حق التقوى، والاستمساك من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي؛ فإن أقدامكم على النار لا تقوى، فاتقوا الله: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:١٧] .

حجاج بيت الله! يا من أديتم مناسككم فوقفتم بـ عرفات، وانحدر بكم الشوق إلى المزدلفة، فسكبتم عند المشعر الحرام العبرات.

فَلِلَّهِ كم من خائف منكم أزعجه الخوف من الله وأقلقه! وراجٍ أحسن الظن بوعد الله فصدَّقه! وكم من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه! وبلغ الأماني عشية عرفة!

حجاج بيت الله الحرام! ليس السابق اليوم من سبقت به راحلتُه، إنما السابق من غُفر له ذنبُه، وقُبل عملُه؛ فاخلصوا لله حجكم، واتبعوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم تفلحوا.

ومن قصر في جنب الله فليرجع إلى جهاد النفس، فهو الجهاد الأكبر.

وحذارِ حذارِ أن تحلقوا رءوس أعمالكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة الدين، ليست حالقة الشعر {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:٩٢] .

فَلِلَّهِ ما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة! وما أقبح السيئة بعد الحسنة!

فالحذر الحذر -عباد الله- من العمى بعد الهدى، ومن الحور بعد الكور.

عباد الله: إن الحج المتكرر في كل عام، منذ أن أذن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، وهم يفدون إلى بيت الله العتيق من كل فج عميق، رجالاً وعلى كل ضامر، لَهُو أمر دالٌّ باللزوم على أن السفر وقطع الفيافي والقِفار أمر ذو بال في واقع كل امرئ حي.

وما أكثر ما يسافر الناس لشئون حياتهم، ماديةً كانت أو معنوية!

ولقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات وكرات، إبَّان شبابه قبل البعثة، وبعد نبوته ما بين حج وعمرة، وجهاد وتجارة.