للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القلم سيف في المعركة]

أيها المسلمون! لقد فاخر كثير من البلاغيين في القلم؛ حتى جارَوا به السيف أو أزيد من ذلك بضروب من وجوه الترجيح كيف لا! وقد أقسم الله به، إضافةً إلى أن القلم يُؤثر في إرهاب العدو على بُعْدٍ، بخلاف السيف فإنه لا يُؤثر فيه إلا عن قرب، إذ أن القلم البَرَّ الجاد يرقُم صحائف الأبرار لتحطيم صحائف الأشرار، لا يصرفه عن ذلك ما يلاقيه في عوالم شتى مِن قِبَل ذوي النزغ من أهل البدع والإلحاد في الدين، أو من ذوي الأقلام المأجورة ممن همُّهم الإحبار أمام الدرهم والدينار، فضلاً عمَّا يصاحب ذلك من تعسف وإرهاق وقوةٍِ باسترقاق الأقلام أو تجفيف المحابر.

إنه في الحقيقة لا يزيد أهلَ العلم إلا بياناً وتبياناً، وعزماً على قول الحق، وتبيين الدين للخلق، والتحذير مما يغضب الله ورسوله مع سكينة وأريَحْيَّة، حاديهم في ذلك قوله جل وعلا: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} [الزخرف:٥] .

عباد الله! صدق القلم وفصاحته من أحسن ما يتلبس به الكاتب ويتزر به العاقل، والاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورة كما الأمر في المبنى، وهو بذلك صاحبٌ في الغربة، ومؤنس في القلة، وزينٌ في المحافل وأشياع الناس، ناهيكم بعد ذلك عن دلالته على العقل والمروءة ورباطة الجأش، والتبرِّي من ضيق العطن، وعشق رأي الذات {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:١٧] .

ثَمَّةَ ولا شك أن من غرس فتيلاً يوشك أن يأكل رطبها، وما يستوي عند أولي النهى وذوي الحجا قلمان: أحدهما ثرثار متفيهق، يطب زكاماً فيحدث جذاماً، والآخر: يكتب على استحياءٍ محمود، وغيرةٍ نابتة من حب الله ورسوله، وإذا تعارض القلمان فإن الخَرَس خيرٌ من البيان بالكذب، كما أن الحصور خير من العاهر.

من عزم الكتابة -عباد الله- فلا يتخذها للمماراة عُدَّة، ولا للمجاراة ملجئاً، ولا يأمننَّ الزلة والعرضة للخطأ، وكما قيل: "من ألَّف فقد استُهْدِف! " وفي القديم: "مَن كتب فكأنما قدَّم للناس عقله على طبق".

وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ! ما يقول المزني رحمه الله عن شيخه الإمام الشافعي الفقيه النحوي المحدث: قرأتُ كتاب الرسالة للشافعي عليه ثمانين مرة، نجد في كل مرة ما لا نجده من قبل.

يعني بذلك: مما يستوجب إعادة النظر.