[بيت الله يجدد معالم التوحيد]
حجاج بيت الله الحرام! إن بيت الله العتيق ما برح يطاول الزمان، وهو شامخ البنيان، في منعة من الله وأمان، بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، إعلاناً بالتوحيد الخالص، إذ بناؤه مرهون بتوحيد الله، حيث قال جل وعلا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:٢٦] .
فمن أجل التوحيد بني بيت الله، لئلا يعبد إلا هو وحده، فقد حطم المصطفى صلى الله عليه وسلم الأصنام من حول الكعبة -وعلى رأسها أعلاها وأعظمها هبل- وهو يردد: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:٨١] .
لقد تمثل التوحيد في الحج من خلال التلبية، وفي قراءة سورتي الكافرون وقل هو الله أحد في ركعتي الطواف، وتمثل في خير الدعاء وهو دعاء يوم عرفة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .
إذاً: فالتوحيد -عباد الله- هو لباب الرسالة السماوية كلها، وهو عمود الإسلام وشعاره الذي لا ينفك عنه، وهو الحقيقة التي ينبغي أن نغار عليها ونصونها من كل شائبة، فالتوحيد وسيلة كل نجاح وشفيع كل فلاح، يصير الحقير شريفاً، والوضيع مطريفاً، يطول القصير ويقدم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، وما شيد ملك إلا على دعائمه، ولا زال ملك إلا على قواصمه، ما عزت دولة إلا بانتشاره، ولا زالت وذلت إلا باندثاره، ألا وإن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام وأشد البلايا التي حلت بها إنما كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، وما تسلط من تسلط من الأعداء، وتعجرف من تعجرف، وغار من غار على حياض المسلمين، واستأصل شأفتهم إلا بسبب ضعف التوحيد، وما تأريخ التتار عن المسلمين بغائب، حيث بلغ الضعف في نفوس كثير من المسلمين آنذاك مبلغاً عظيماً؛ بسبب ضعف التوحيد، حتى ذكر بعض المؤرخين: أن جموعاً من المسلمين، أبان الهجوم التتري لبلاد الإسلام كانوا يرددون:
يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر
عوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الضرر
كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:١٧] .
لقد ابتلي كثير من الناس بالجهل بالتوحيد، حتى لم يعرفوا حق الله وحق العبد، ومزجوا بعض ما لله فجعلوه للعبد، حتى انحاز بعضهم إلى أصحاب القبور، وتضرعوا أمام أعتابها، وتمسحوا بها، واستغاثوا بأهلها بالشدائد والكروب، بل لقد كثر مروجوها والداعون إليها من قبوريين ومخرفين، والذين يخترعون حكايات سمجة عن القبور وأصحابها وكرامات مختلقة لا تمس إلى الصحة بنصيب.
بل قد طاف بعضهم بالقبور كما يطاف بالكعبة المعظمة، وأوقفوا الأموال الطائلة على تلك الأضرحة، حتى إنه لتجتمع في خزائن بعض المقبورين أموال يصعب حصرها، فيا لله! كيف أن أحياءهم لا يكرمون بدرهم واحد، وبألف ألف قد يكرم أمواتهم!!
لقد قصر أناس مع التوحيد، فتقاذفتهم الأهواء، واستحوذت عليهم الفتن والأدواء، فمن مفتون بالتمائم والحروز يعلقها عليه وعلى عياله؛ بدعوى أنها تدفع الشر، وتذهب بالعين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:١٧] .
لقد قصر جمع من المسلمين مع التوحيد، فافتتنوا بالمشعوذين، والدجاجلة الأفاكين، من سحرة وعرافين ونحوهم، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل، بدعوى أنهم يكاشفونهم بأمور الغيب، فيما يسمى مجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، ليكاشفوا الناس -على حد زعمهم- عما سيحدث في العالم خلال يوم جديد، أو أسبوع سيطل، أو شهر أوشك حلوله، أو عام مرتقب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:٦٥] .
ناهيكم -عباد الله- عن اللت والعجن عبر الصحف والمجلات ونحوها، فيما يسمى قراءة الأبراج ومستقبلها، والذي يروج من خلاله بأنه يا لسعادة كاملة لأصحاب برج الجدي، ويا لغنى أصحاب برج العقرب، وأما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ وخيبة الأمل (زعموا) إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة التي لا حد لها: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:٣٨] .
الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! والله أكبر! الله أكبر! ولله الحمد! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله إنه كان غفاراً.