للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفريط في الأعمال الصالحة]

والأمر الذي نُريد أن نتحدث عنه هنا باختصار في هذه العُجالة شبيه بما ذكرناه آنفاً، غير أن ما يُعنينا هنا هو أمر أخروي لا دنيوي، وراجح لا مرجوح، بل هو خيرٌ من كنوز كسرى وقيصر، وخيرٌ من مال قارون وخيرات سبأ، بل إنه من الحسنات اللآتي يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين.

ذلكم -يا عباد الله- هو ما يعرف باسم التفريط في الأعمال الصالحة، وأخص بالحديث منها فضائل الأعمال.

أيها الناس: إننا حينما نتحدث عن فضائل الأعمال وفقهها، فسيأخذ الحديث بألبابنا، ولربما طال بنا المقام، والقلوب مشرئبة إلى سماعها بتمامها، بيد أن الذي نود تسليط الحديث عليه هو ذلكم الشعور السلبي، والإحساس شبه المغيب حقيقة، عن استحضار الصور الحقيقية لفضائل الأعمال، لا سيما تلك الأعمال التي تستجلب الحسنات الكثيرة في مقابل العمل الصغير، والتي قد يفعلها جمهور من الناس، غير أنه يقل من يستشعر أبعادها، أو يدرك حقيقة أجرها، بغض النظر عن كون بعضهم يُؤديها على شبه صورة اعتيادية، فضلاً عمن نأى بنفسه عنها بالكلية، مع أنه لو علم ما فيها من الأجر والمثوبة لحكم على نفسه بالسفه والحطة: كيف يضيعها لتغدو عنه سبهللاً؟

ولا جرم يا عباد الله! فعُمر الإنسان مهما طال فهو إلى القصر أقرب، ولو استحضرنا قليلاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك} رواه الترمذي وغيره لو استحضرنا هذا الحديث، وقمنا بقسمة عُمْرَ من بلغ الستين، وجعلنا له من يومه ما يُقارب سبع ساعاتٍ يأخذها في النوم، فإن ثلث الستين سنة سيكون نوماً قطعاً، وإنما يُعادل سنتين تقريباً سيكون لتناول الطعام لو قلنا بالوجبات الثلاث، وما يقارب الخمسة عشرة سنة يكون سن طفولة وصبوة دون التكليف، وحينئذٍ لا يبقى له حقيقة من الستين إلا ما يقارب ثلاثاً وعشرين سنة، كل ذلك يؤكد للمرء أنه أحوج ما يكون إلى كل مبادرة للعمل الصالح.

أيها المسلمون: إن في ضرب المثل غنية وكفاية لمن هو في الفهم والإدراك فحل، فإليكم أمثلة متنوعة، نستطيع من خلال ذكرها أن ندرك -جميعاً- مدى الهوة السحيقة والبون الشاسع بيننا وبين البدار إلى الأعمال الصالحة:

جاء عند مسلم في صحيحه: {أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تبع جنازةً فله قيراط، قال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد فرطنا في قراريط كثيرة} .

ألا فانظروا -يا رعاكم الله- إلى ندم ابن عمر رضي الله عنهما، وكيف أسف على تضييعه لهذه القراريط، ولا غرو -أيها المسلمون- في ذلك، فإن القيراط الواحد كـ جبل أحد.

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر} .

وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أيعجز أحدكم أن يكسب كل يومٍ ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة} .

وعند أحمد وأصحاب السنن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة} .

فانظروا -يا رعاكم الله- إلى هذه الحسنات الهائلة، وإلى ما يُقابلها من العمل اليسير، حسنات يعب منها الإنسان عباً، لا غلاء ولا كلفة، غير توفيق الله لمن بادر، ألا فليت شعري أترون نخيل الجنة كنخيل الدنيا؟! لله بكم يُشترى أطايب النخيل في دنيانا! ألا فالله أكبر ولا إله إلا الله نخلة في الجنة ثمنها سبحان الله وبحمده، أوَّه! تالله لقد فرطنا في نخيل كثيرةٍ، فالله المستعان!