أيها المسلمون! شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن؛ القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقده، والمنهاج الذي لا يضل ناهجه، والعز الذي لا يهزم أنصاره.
القرآن -عباد الله- هو بمثابة الروح للجسد، والنور للهداية، فمن لم يقرأ القرآن ولم يعمل به فما هو بحي، وإن تكلم، أو عمل، أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى، وإن طار في السماء، أو غاص في الماء:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}[الأنعام:١٢٢] ، إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماءٍ ولا هواء، بل إن الإفلاس متحققٌ في حسه ونفسه؛ ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:٤٤] .
إن مما لاشك فيه -أيها المسلمون- أن صلة الكثيرين بكتاب ربهم يكتنفها شيءٌ من الهجران والعقوق، سواء في تلاوته، أو في العمل به، بل قد لا نبعد النجعة لو قلنا: إن علل الأمم السابقة قد تسللت إلى أمة الإسلام لواذاً وهي لا تشعر، ألا تقرءون يا رعاكم الله! قول الباري جل وعلا:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[البقرة:٧٨] ، يقول المفسرون: أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلاً، بحيث لا يجاوز حناجرهم وتراقيهم، كل ذلك بسبب الغياب القلبي، والعجز الروحي عن تدبر القرآن، بل إن البعض على قلوب أقفالها، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، أفلا يتدبرون القرآن إذاً؟
إن من أسباب عدم التدبر: هو البعد عن اكتشاف سنن الله في الأنفس والآفاق، وحسن تسخيرها، والتحرر غير المبعض، من تقديس الأفهام المغلوطة، والتأويلات المآربية المخلوطة، والتي انحدرت إلى كثيرٍ من أوساط الناس عبر لوثات علل وأفهام، يغذيها شعورٌ طاغٍ من حب الدنيا وكراهية الموت، وما عند الله خير وأبقى للذين هم لربهم يرهبون.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال:{ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: وذلك عند ذهاب العلم، قلنا يا رسول الله: كيف يذهب العلم، ونحن قرأنا القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟ فقال: ثكلتك أمك يـ ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه الرجال في المدينة، أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟} .
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلبه كل مأخذ، حين يرى مواقف الكثير من المسلمين مع كتاب ربهم، وقد أحاط بهم الظلام، وادلهمت عليهم الخطوب من كل حدبٍ وصوب، ثم هم يتخبطون خبط عشواء، أفلست النظم، وتدهورت القوميات، وهشت العولميات، فيالله العجب! كيف يكون النور بين أيدينا ثم نحن نلحق بركاب الأمم من غيرنا؟! تتهاوى بنا الريح في كل اتجاه لا نلوي على شيء، لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين عاماً، ولقد كنا نسمع كثيراً أن كبر السن وصروف الحياة المتقلبة قد تشيب منها مفارق الإنسان، فما ظنكم بمن تمر به هذه كلها واحدة تلو الأخرى، ثم هو ينسب المشيب الذي فيه إلى آياتٍ من كتاب الله كان يرددها، ومعانٍ يتأولها ويتدبرها، روى الترمذي والحاكم: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! ما شيبك؟ قال: شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت} .
إن رمضان بهذه الإطلالة المباركة ليعد فرصة كبرى، ومنحة عظمى للمرء المسلم، في أن يطهر نفسه بالنهار لكي يعدها لتلقي هدايات القرآن في قيام الليل قال تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً}[المزمل:٦] وناشئة الليل: هي ساعاته وأوقاته، فهي أجمع على التلاوة من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، فكأن الصيام في النهار تخلية، والقيام بالقرآن في الليل تحلية.