[الممدوح من التمني والمذموم]
التمني -أيها المسلمون- مأخوذٌ من الأمنية، وجمعها أماني، وهو أعم من الترجي؛ لأن الترجي مخصوصٌ بالممكنات، والتمني أعم من ذلك، وقد عرَّفه أهلُه على أنه إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خيرٍ من غير أن تتعلق بحسدٍ فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة.
والناظر في واقع المسلمين اليوم في شبابهم وشيوخهم من جهة الأمنيات والتطلعات المطروحة، لن يجد كثيراً يسرُّه، إذ يرى نفسه بين خليطٍ ممتزجٍ امتزاج المعبوب المقسور من التناقضات والمتعارضات، مما يجعله لا يبعد النجعة إذا أوقع حدسه في تصنيف عقول كثيرٍ منهم، وقد قيل: لتعرف حجم عقل المرء سَلْه عن أمنيته، وأحسن هؤلاء مَن قَصَر أمنيتَه على أمورٍ جبلية، كبنتٍ عضَلَها أبوها ظلماً فتتمنى الزواج، أو ربِّ أسرة مُناه أن يرى ما يسره ممن يعول، أو كزارعٍ يكدح، وتاجرٍ يسافر، ومريضٍ يتداوى بالعلقم، فالأول لحصاده، والثاني لربحه، والثالث لشفائه وهلمَّ جرَّاً.
ولو لم يكن من التمني عندهم إلا دفع النشاط، وتخفيف الويلات لكفى، وكأنهم يُروُون بها على ظمأ، فإن تحققت فهي أحسن المنى، وإلا فهم يعيشون بها زمناً رغداً، وما كل ما يتمنى المرء يدركه!
والعيب هنا -أيها المسلمون- ليس في مبدأ التمني وطلبته فحسب! كلا.
فالتمني جِبِلَّة جبل الله الخلق عليها؛ ولكن العيب هنا -كل العيب- في فوضى الأمنيات، والانحطاط الثقافي والمعرفي والروحي من نفوس الكثيرين، حتى إن أحدهم لََيَصل إلى درجة الأماني الدنيئة التي لا يقرها شرعٌ ولا عقل، وإنما طالتها لوثة الترويج الإعلامي المغلوط، وأمصال العولمة المعرفية، دونما سياجٍ للحشمة والعفاف، وما يحسن وما يقبح.
نَعَم! التمني مصدره ومحله القلب، وما يطلقه من طموحاتٍ ورغبات، وهذا لا يعفي المرء من تقييد همه، وأن محبة الإثم إثمٌ وإن لم يقع، وفي مثل هؤلاء يقول ابن الجوزي رحمه الله: نعوذ بالله من سِيَر هؤلاء الذين نعاشرهم، لا ترى منهم ذا همة عالية فيقتدي بها المقتدي، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه الزاهد.
وعليكم بملاحظة سِيَر السلف وقد جاء عند الطبراني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يُحب معالي الأمور ويكره سفسافها} .
ومع ذلك -أيها المسلمون- فمن الناس جُحَّادٌ بالله الخالق، يعيشون بأنفسهم فحسب! تجدونهم أيأس الناس وأكفرهم و {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] نظروا إلى الدنيا وإلى الناس وإلى حكمة الله بمنظارٍ أسود قاتمٍ، يرون الأرض غابة، والناس وحوشاً، والعيش عبئاً لا يُطاق، ليس للأماني الصادقة محلٌ في أفئدتهم حتى ولا جنة الخلد، فهم لا يبكون مَيْتاً، ولا يفرحون بمولود، ويرون أن الميت للدود والمولود لدود، وحاصلهم أن لا أمنية لديهم في أن يكون لهم أمنية، فعبروا عن قنوطهم وكفرهم بالله بما يبثونه من اللغط والخلط من خلال محادثاتٍ ومقالاتٍ في الصحافة تارة، ومن خلال روائياتٍ تاراتٍ وتارات، يُعدِمون بها انتماءهم للدين بالعدامة، ثم يشمِّتون أرواحهم لتفوح جيفهم فتخطفهم الطير أو تهوي بهم الريح إلى سراديب في شرق الوادي السحيق.
والله المستعان!
ولا غَرْوَ -أيها المسلمون- في انتشار الأماني الكاذبة، والطموحات الساذجة، والتطلعات الدنيئة في هذه العصور المتأخرة التي ضعف فيها الوازع الديني الزاجر، ولله كم من أمنياتٍ كانت وستكون مولِّدة لأمنيةٍ أخرى هي على الضد من ذلك عند اختلال الموازين، يقف لها شَعر المرء المسلم!
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: {لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء} ، يقول ابن عبد البر: "سيكون هذا لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين، أو ضعفه، أو خوف ذهابه".
وقد أخرج الحاكم عن أبي سلمة قال: [[عدتُ أبا هريرة فقلت: اللهم اشفِ أبا هريرة فقال: اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمُتْ، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمانٌ الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، وليأتين أحدهم قبر أخيه، فيقول: ليتني مكانه]] وهذا -أيها المسلمون- لا يُعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب} رواه البخاري وغيره؛ لأن هذا محمولٌ على زمانٍ لم تعم فيه الفتن والبلايا التي يكون الموت فيها أسلم من الحياة.