للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإكثار من التمني والآمال الكاذبة]

عباد الله: ثَمَّ أمرٌ مهمٌ ليس يخفى مما يتعلق بموضوعنا هذا وهو العب من التمني والآمال الكاذبة التي هي أقرب ما تكون إلى أحلام اليقظة وأطياف الخيال -لا سيما القاصرة منها- والتي لا ينتفع بها غادٍ ولا رائح وإنما هي أماني ملء البطون، وإشباع الفروج، وما أشبه ذلك مما يجلب عليه الشيطان بخيله ورجله ويعدهم به ويمنيهم {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:١٢٠] ومن كان مرعى همومه وعزمه في مثل هذا روض الأماني لم يزل مهزولاً ثملاً.

وقد قال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين في مثل هذا: إن التمني من مفسدات القلب، وهو بحرٌ لا ساحل له، وهو الذي يركبه مفاليس العالم، كما قيل: إن المنى رأس أموال المفاليس، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، وكلٌ بحسب حاله من متمنٍ للقدرة والسلطان، وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان، أو للنسوان والمُردان، فيمثِّل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصولها، والتَذَّ بالظفر بها، فبينا هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير، بخلاف أماني المؤمن الصادق فهي نورٌ وحكمة، وأمانيُ أولئك خداعٌ وغرور.

وذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار رحمه الله: "أن ناسكاً كان له عسلٌ وسمنٌ في جرة، ففكر يوماً فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز فأولدهن في كل سنة مرتين إلى أن قال: فأتخذ المساكين والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابنٌ فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربتُ بعصاي رأسه -وكانت في يده عصاً- فرفعها حاكياً للضرب، فأصابت الجرة فانكسرت وانصب السمن والعسل".

وكان أبو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك، فقال: ذهنٌ صافٍ، وهمٌ بعيد، ونفسٌ تَتُوقُ إلى معالي الأمور، مع عيشٍ كعيش الهمج والرعاع، قيل: فما الذي يبرد غليلك؟ قال: الظفر بالملك، فحصل له شيءٌ من مراده، وانتصب في طلب الولايات، فكم قتل وفتك حتى نال بعضها، فلم تزد على ثمان سنين، ثم اغتيل: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النجم:٢٤-٢٥] أي: ليس كل من قد تمنى خيراً حصل له.

والمهم أن يتفطن المرء إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يُكتب من أُمنيته} رواه أحمد {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] .

فالدين -عباد الله- ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وليس كل من تمنى شيئاً حصل له، ولا كل من قال إنه على الحق وتمناه سُمِع قولُه بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:١٤] .

يقول الحسن البصري رحمه الله: "المنافق يقول: سواد الناس كثير وسيغفر الله لي، ولا بأس علي بسيء العمل، ويتمنى على الله"، وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره: {الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتَمنَّى على الله الأماني} .

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم من الآيات والذكر والحكمة.

أقول ما سمعتم، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله.