[الفرقة والاختلاف]
الأمر الثاني: أن أهل الجاهلية متفرقون في دينهم ودنياهم، وهم في ذلك فِرَق وأحزاب {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:٥٣] كلُّ منهم يرى أنه على الحق دون سواه، فمُحق الخير، وأحيي الشر، حتى أصبح المرء لا يعرف إلا نفسه، ولا يتأثر بالفرح والحزن إلا لما يمسه هو من خير أو شر، فماتت العاطفة والصلة بمشاعر الأخوة الإسلامية العامرة.
فجاء الإسلام، ودعا إلى الأخوة الدينية، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول ربه عزَّ وجلَّ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:١٣] ، وتلا قول خالقه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:١٥٩] .
ويعلن المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه قولته المشهورة: {مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} رواه مسلم.
ويكون بذلك مؤكداً أخوة الدين التي تفرض تناصر المؤمنين المفلحين، لا تناصر العِبِّيَّة العمياء، والجاهلية الجهلاء؛ لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإجارة المهضوم، وإرشاد الضال، وحد المتطاول.
وهذا كله هو ثمرة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {انصر أخاك ظالِماً أو مظلوماً} رواه البخاري.
إن الله سبحانه ردَّ أنساب الناس وأجناسهم إلى أبَوَين اثنين، فهم جميعاً,.
الناس من جهة التمثال أكْفَاءُ أبوهمُ آدم والأم حواءُ
وإن يكن لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فالطين والماءُ
ليجعل الله من هذه الرحم ملتقى تتشابك عنده الصلات، وتُسْتَوثَق العُرى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:١٣] .
إنه التعارف لا التفاخر، والتعاون لا التخاذل، وأما الشرف والرفعة فإنما هو في قوة الدين، وتمكَّن التقوى من قلب العبد في إزالة الفوارق البشرية.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أشراف قريش يقف مع الناس، ويقول لقومه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩] تحقيقاً للمساواة بين المسلمين، وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يُزوج ابنته أو أخته من الرجل من عامة الناس، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزوج ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية من مولاه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما.
ويقول صلوات الله وسلامه عليه: {يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه} وقد كان حجَّاماً رضي الله تعالى عنه.
رواه أبو داود والحاكم.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:١٠] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.