للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قضية المرأة بين الهدم وإعادة البناء]

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشكر الله جل وعلا على أن هيأ هذا اللقاء الطيب، وأن جمعنا بأحبة لنا في الدين في بيت من بيوت الله، نتدارس كتاب الله، ونسأل الباري جل وعلا أن يحف هذا المجلس بالسكينة، وأن يغشاه بالرحمة، وأن ينزل عليه ملائكته، وأن يذكرنا في من عنده.

ثم أشكر لأخي فضيلة الشيخ الدكتور سعد علي ما ذكر؛ ولكن أقول: سامحه الله جل وعلا، وإن كان إحسان الظن بالمسلم أمر طيب، ومأمور به كل مسلم تجاه أخيه؛ ولكن أن يكون أمامه فإنه يعين بذلك الشيطان عليه، ويقطع عنقه، ونحن -ولله الحمد- أحوج ما نكون إلى ما في القلوب أكثر مما في الألسن؛ ولا شك أن اللسان دليل على القلب، إلا أن حضور المقصود قد يقطع هذا الأمر؛ ولكن أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني خيراً مما تظنون, وأن يغفر لي ما لا تعلمون، ولسان حالي وحال كل مسلم يقول:

إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني

يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني

ثم قبل البدء بالمحاضرة تعلمون من خلال ما سبق في محاضرة أبها أنني ممن فوجئ بهاتين المحاضرتين، وأما هذه المحاضرة فما علمتُ بها إلا قبل الجمعة بنصف ساعة، وأُقحِمتُ فيها إقحاماً، ومثل هذا الأمر يجعل الإعداد لمثل هذه المحاضرة ضيقاً، وربما فيه من القصور ما فيه، وما أقول إلا أن لسان حالي معكم كنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتلقى الركبان، أو أن يتلقى الجلب، فقدمت هنا طالباً فإذا بي مطلوباً، وقدمتُ معتزلاً فإذا بي وسط الناس؛ ولكن منكم العذر، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي ومن مكتب الدعوة والشيطان، ولا بأس في ذلك - وإن كانت ليست هناك مقارنة- لأنه واردٌ: من نفسي والشيطان؛ فلو أدخلنا مكتب الدعوة فلا بأس؛ لأنه هو السبب في مثل هذه العُجالة.

أولاً: أما عنوان المحاضرة -أيها الإخوة- فهو من العناوين الحَمَّالة الأوجه، أو هو كالوعاء يفسره كل صاحب هوىً على ما يريد، والحقيقة أن العنوان يقال: فيه وجهان، وكل وجه له قائلوه، مع اختلاف المراد من كل معنى.

فأما ما نريده نحن من هذا العنوان، فهو بهذا التفصيل: (أنصفوا المرأة) من باب قولنا من الرباعي: أنْصَفَ يُنْصِفُ إِنْصافاًَ، والمعنى، أي: عدل في الغير، وصدق في إعطائه حقه.

وأما على ما يُشاهَد من أطروحات مهلهلة، وشعارات متهاوية، وإن كان ظاهرها برَّاقاً، فإن من خلال ذلك يُراد النيل من واقع المرأة ونهش حريتها التي أراد الله جل وعلا أن تكون عليها.

فعنوان المحاضرة على منهجهم يكون: (أُنصفوا المرأة) أي: من باب نَصَفَ يَنْصُفُ نَصْفاً من الثلاثية، أي: اقطعوا المرأة نصفين، وإذا قطعَ الشيء نصفين قيل له: نَصَفَ.

والحقيقة أن هذا واقع كثير من كتابات العلمانيين، ومدعي تحرير المرأة، إذ لا يُعرف -أيها الإخوة- من أطروحاتهم إلا مثل هذا المعنى، عافانا الله وإياكم من ذلك.

ثانياً: في هذه الفترة وفترة مضت عشنا لحظات عصيبة جداً كل مسلم غيور يضع فيها يده على صدره، وكأنه يقول: حصن المرأة المسلمة هاهو يتهدم أمام ناظِريه.

وما ذاك إلا لكثرة ما يُرى من الطرح المشئوم، والإلحاد السافر، والعناد الأرعن من خلال قنوات متعددة تحمل من خلال أنامل كُتَّاب أغراض، ومعاول هدم لهذا الحصن الحصين، ولعل كثرتها وتوالي طرحها هو السبب الرئيس لإصابة بعض الغيورين لما يُسمى باليأس، أو ما يُسمى بهوس الهزيمة.

ولكن الذي ينبغي أن يعلمه المؤمن والمؤمنة: أن الله جل وعلا غالب على أمره، وأنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته، وأن انتشار مثل هذه المعاول الهدامة ليست في حقيقتها إلا سبب من الله وحكمة في أن يستيقظ أهل الإيمان من سباتهم، ويتفقدوا الخلل في سلوكهم، ويستكشفوا طرق المقاومة لمثل هذه الأفكار الهدامة، ومن ثَمَّ نسيان هذه المصائب جملة وتفصيلاً، واستئناف حياة أخرى يغلب عليها الفأل والرجاء، وهي أحفل بالعمل والإقدام، وفي ضوء ذلك ندرك قول القائل:

فإن تكن الأيام فينا تبدلتْ ببؤسى ونُعمى والحوادث تفعلُ

فما ليَّنت منا قناة صليبة ولا ذللتنا إلا للتي ليست تجمُلُ

ولكن رحلناها نفوساً كريمة تحمَّل ما لا يُستطاع فتحملُ

وقَينا بحسن الصبر منا نفوسَنا صحَّت لنا الأعراضُ والناس بدل

إن تهيب المرء المسلم بأن يقع في ضلالٍ ما يُبعده ذلك التهيب عن بعض المواقف، وينجيه من غوائله؛ بيد أن المرء الذي يخشى على حياته أن يتناول جرعة كبيرة من السم لوضوح خطرها، فإنه بذلك يستهين بتناول أجزاء دقيقة منها تكون مطوية في أطعمة مكشوفة، أو أطباق قذرة، أو أيدي ملوثة، أو ما شابه ذلك، ومن ثم يصيب بدنه من العلل ما قد يودي به، مثلما تودي به رصاصة قاتلة أو طعنة غادرة.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الخبر بقوله: {إن الشيطان قد أيس أن يُعبد في جزيرة العرب؛ ولكن بالتحريش بينهم} وحري بنا ونحن نتكلم عن بعض آراء ذوي الأهواء أن ننبه إلى الملابسات التي تجعل كثيراً منهم يوافق -مثلاً- أو يرفض، بل يؤمن ويكفر متى ما يرى الهيعة قد سارت في الاتجاه الغالب، والعامة من هؤلاء -وللأسف الشديد- مع صاحب الدنيا إذا غلب ولو كان ذميماً، وأما الذين يعتنقون الحق المجرد ولو أثخنته الهزائم، ويغالون بنفاسته ولو مُرِّغ في التراب، فهؤلاء هم غرباء العالم.

والناس مَن يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبلُ