عباد الله: إن السعادة عبارة يتوه معظم الناس في تفسيرها، ولا يتفقون عليها، يجلبون بخيلهم ورَجِلِهم على ما يتوهمونه، ثم يعودون بخُفي حنين، وكأنهم خَرِفٌ يكلِّم الأشباح، أو يطعن في الرياح، فصاروا كطالب اللؤلؤ في الصحراء، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء.
فظن الغني منهم أن سعادته كامنة في صحته وعمارة قصره.
وتوهمها الفقير في الثروة، والملبس الحسن.
وأكَّد السياسي أنها في تحقق الأهداف، والمهارة في جعل الجور عدلاً، والشر خيراً.
وجزم العاشق على أنها في الوصال، والتيم بمعشوقه.
وعند فلان كذا، وعند علان هي ذا.
ولكن المنصف الملهم -عباد الله- حينما يبرق بعيني بصيرته؛ ليعلم يقيناً سُخْف التخمين، وسُحْق الهُوَّة التي يقع فيها أصحاب الأوهام المعلولة.
فإذا بالغني يرى أن قصره المشيد قد شاطره السعادة الموهومة فيه خدمه وحشمه، بل وكلب حراسته وخيله، فتأكد له جيداً أن السعادة لا تتمثل في بناء الدور، وتشييد القصور.
وإذا بالفقير المرهق ينظر إلى أصحاب الثروة واللباس الفاخر مُلْتاثين بطيف سعادةٍ، وإنما هي رجع ضوء مُنْعَكِس على سحابة عما قريب ستنقشع، فيقول في قرارة نفسه: هذا القطن الذي يلبسونه كان في الغابة على الأشجار، والحرير الذي يضاهون به كان في بطن دودة تعيش في الأوكار، أما الحلي الذي يلبسونه فقد كان وسط أحجار ينقلها بغل أو حمار، فيتيقن حينئذٍ أن السعادة الحقة قد تمثلت في مثل شخص الفاروق رضي الله تعالى عنه، في حين:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدْمٌ له، والكوخ مأواهُ
ومع ذلك كله:
يهتز كسرى على كرسيه فَرَقاً من خوفه, وملوك الروم تخشاهُ