[توبة الأنبياء والصالحين]
أيها المذنب المقصر: لا تخجل من التوبة، ولا تستحِ من الإنابة؛ فلقد فعلها قبلك آدم وحواء حين قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣] .
وفعلها قبلك إبراهيم حين قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:٨٢] .
وفعلها موسى حين قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:١٦] .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أيوب نبي الله لبث في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلَين من إخوته كانا من أخص إخوانه كانا يغدُوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم -والله- لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبُه: وما ذاك؟! قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول؟! غير أن الله يعلم أني كنت أَمرُّ على الرجلَين يتنازعان فيذكران الله؛ فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يُذكر اللهُ إلا في حق.
قال: وكان يخرج إلى حاجته, فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:٤٢] فاستبطأته فبلغته، فأقبل عليها حتى قد أذهب الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟! فوالله ما رأيت أحداً كان أشبه به منك إذ كان صحيحاً! قال: فإني أنا هو.
وكان له أنْدَران: أنَدَر القمح وأنْدَر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الوَرِق حتى فاض} رواه ابن حبان والحاكم، وصححه الذهبي.
فلا إله إلا الله! من يمنع المذنب من التوبة؟!
ولا إله إلا الله! {مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٦] .
يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [[دعا الله إلى مغفرته مَن زعم أن عزيراً ابن الله، ومَن زعم أن الله فقير، ومَن زعم أن يد الله مغلولة، ومَن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول لهؤلاء جميعاً: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٧٤]] ] .
ألا فإن التوبة للمرء كالماء للسمك، فما ظنكم بالسمك إذا فارق الماء.
{جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، فردها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لِمَ تردُّني؟! لعلك تريد أن تردَّني كما رددتَ ماعزاً! فوالله إني لحُبلى.
قال: أمَا فاذهبي حتى تلدي.
فلما وَلَدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: ها قد ولَدْتُه.
قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه.
فلما فطَمَته أتته بالصبي في يده كسرة خبز حرصاً منها على التوبة وإقامة الحد فقالت: يا رسول الله! ها قد فطمتُه، وقد أكل الطعام.
فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أَمَر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها فتنضَّخ الدم على وجه خالد فسبَّها، فسمع نبي الله سَبَّه إياها فقال: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْس لَغُفِر له} وصاحب المكس هو الذي يأخذ الضريبة من الناس.
رواه مسلم، وفي رواية: {لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجَدَتْ شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عزَّ وجلَّ؟!} .
إن صاحب الذنب مهما غفل عن التوبة أو تناءى عنه الوصول إليها، فسيظل أسير النفس، قلقاً لا قرار له، متلفتاً لا يصل إلى مبتغاه ما لم يُفتح له باب التوبة ليطهر نفسه من كلكلها، ويخفف من أحمالها.
إلهنا!
يا من يرى مدَّ البعوض جناحَها في ظلمة الليل البهيم الأليلِ
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُّحَّلِ
امنن عليَّ بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأولِ
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفاراً.