الحمد لله الواصل الحمدَ بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه، ونستعينه على نفوسنا البطاء عما أمر به، السراع إلى ما نهي عنه، ونستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه، علمٌ غير قاصر، وكتابٌ غير مغادر، خلق الإنسان وبصره بما في الحياة من خير وشر:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:٣] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله دار حسنٍ عزيز، تمنع أهلها، وتحرز من لجأ إليها، وبها تقطع حمة الخطايا، فهي النجاة غداً والمنجاة أبداً.
أيها الناس: إن للأمم مع نفوسها غفوة تعقبها غفوات، وللأفراد المنفردين كما للأمم والشعوب سواءً بسواء، وإذا كانت غفوة الفرد تعد بالساعات فإن غفوة الأمم تعد بالسنين، لأن السنة في حياة الأمة تقوم مقام اليوم أو بعضه في حياة فردٍ من الأفراد، وحينما تتعرض الأمم لنكبات تزلزلها وتبلبلها؛ يكون من المتحتم على أفرادها ومجتمعاتها أن يعودوا إلى أنفسهم؛ ليتبينوا مواقع أقدامهم ويبصروا مواقع خطواتهم، لأنهم يصبحون حينئذٍ في أشد الحاجة إلى عملية تشييد أو بناءٍ جديد، حتى تعود نفوسهم لبناتٍ صالحة لإقامة صرح الأمة المشيد، ولذلك يقول الحق جل وعلا:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:١١] ويقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}[المائدة:١٠٥] ويقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {عليك بنفسك} .
عباد الله: إن الفساد في الدنيا، إنما يكون ظاهراً جلياً، حينما لا يتوقع المجتمع حساباً من ربٍ قاهر، أو من ولي حاكم، أو من مجتمعٍ محكوم، أو من نفسٍ لوامة، وحينما لا يتوقع أفراد المجتمع حساباً على تصرفاتهم؛ فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون، ويموجون كما يشتهون، وكما تهوى أنفسهم، فيقبلون على الحياة ودروبها بلا زمامٍ ولا خِطام، فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون:{إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً}[النبأ:٢٧-٢٨] فهؤلاء لم يكونوا مؤمنين بالمحاسِب ولا موقنين بالمحاسَب.
لو أن الأمم والمجتمعات يخبطون في الدنيا خبط عشواء، ويتصرفون على ما يحلو لهم، دون معقبٍ أو حسيب؛ لجاز على تفريطٍ وحمق أن يبعثروا حياتهم كما يبعثر السفيه ماله، فكيف ولله الحفظة يدونون مثقال الذرة:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[الكهف:٤٩] .
والذي ينبغي على الناس بعامة أن يكونوا على وعيٍ وبصيرة بمقدار ما يفعلون من خطأ وصواب، والحق أن هذا الانقلاب في مهام الحياة أفراداً وجماعات دون اكتراث بما كان وما يكون، أو الاطلاع بنظرة خاطفة إلى بعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذير شؤم والعياذ بالله! وقد عده الله في كتابه الكريم من الأوصاف التي يعرف بها المنافقون، الذين لا كياسة لديهم ولا يقين لهم:{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة:١٢٦] .