إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فبتقوى الله عز وجل تجتمع الكلمة، وتتم النعمة، وتتجلى الحكمة.
أيها المسلمون! إن في دنيا الناس ذكريات لا يُمل حديثها، ولا تُسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يُمل حديثها ولا تُسأم سيرتها: حياة محمد صلى الله عليه وسلم، إمام البشرية، وسيد ولد آدم، فهي من الذكريات الغوالي التي تتجدد آثارها وعظاتها كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والادكار.
والعبد المؤمن إذا غشي معالم سيرته صلى الله عليه وسلم فهو كعابد يغشى في مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن أنه ما قلب سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوماً فأخطأ دمع العين مجراه.
وفي أيام محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتطوى على الأيام وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أصدعها وأروعها يوم الهجرة الذي تهب علينا نسمات ذكراه في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاءً وسناءً كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب الإبريز كلما عرضته على النار لتمحصه؛ ازداد إشراقاً وصفاءً.
وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريقة العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}[القصص:٨٥] أي: إلى مكة.
عباد الله: إننا هنا نعرض لمحات من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتهم ومقدساتهم؛ تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل.
والهجرة النبوية تعطينا في هذا المجال قدوة وأسوة، ففيها تتجلى دروس ودروس من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتاط المجرمون من أعدائه في مقاومته، والتطاول عليه بالسخرية والاستهزاء، ثم بالكذب والافتراء، ثم بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:٣٠] .