[حلم النبي صلى الله عليه وسلم وظلم أعدائه له]
الحمد لله الحليم العظيم، رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله رحمةً للعالمين، ومنِّة للإنس والجن، براً حريصاً بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه واعبدوه، وراقبوه في خلواتكم وجلواتكم {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:٧٧] .
أيها الناس! ما عُرِفَ على هذه البسيطة -ولن يعرف- مظلوم من البشر تواطأ الناس على ظلمه، وما فتئوا يصفونه بأحدِّ ما وضعوا من ألفاظ مسفهة، في أعقاب نبوات أعقب الشيطان ثمارها، على بقاءٍ في لبه، ونور في دعوته، وصدق في حديثه، وثقة في أمانته مثل رسول الله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فلقد نال الشتائم والسباب من كافة طبقات المجتمع، فقد هجاه شعراء، وسَخِرَ منه سادة، وآذاه عتارسة، ونال منه سحرة.
ولقد شاء الله -سبحانه- أن يأتي اليوم الموعود الذي يفتح الله فيه على نبيه صلى الله عليه وسلم بـ مكة، حتى إذا ما دخل بالبيت وطاف جلس بالمسجد، والناس من حوله، والعيون شاخصة إليه، والقوم مشرئبون إلى معرفة صنيعه بأعدائه شبابهم وشيوخهم، فقال كلمته المشهورة: {يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم! اذهبوا فأنتم الطلقاء} فيسلم حينها العظماء ويتوبون، كأمثال: هند بنت عتبة، وعكرمة بن أبي جهل، ويئوب الشعراء، ويعتذرون إليه؛ كـ ابن الزبعري وكعب بن زهير، فلا ينال الجميع منه إلا العفو والتغاضي.
الله أكبر! ما أجمل العفو عند المقدرة!
والله أكبر! ما أجمل السعة عند الضيق والعزة عند الذلة!
ومن أحق بذلك إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] .
أيها المسلمون! بهذا الموقف وبغيره من المواقف العظيمة عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم محو الجاهلية، وقطع ظلامها، بأنواع المعرفة والإرشاد، ومنع الفساد فيها بحلمه وعفوه {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] .
لقد كفكف الرسول صلى الله عليه وسلم من نزوات الجاهلية، وأقام أركان المجتمع على الفضل وحسن التخلق، ونبذ الجهل والغضب، وكثير من النصائح التي أسداها للناس كافة كانت تتجه إلى هذا الهدف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر} رواه البخاري ومسلم.