[الدنيا دار ابتلاء]
الحمد لله مزيل الهم، وكاشف الغم، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فهو مولي النعم وصارف النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ذو الشرف الأسمى والخلق الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وبارك وسلم.
أما بعد:
أيها المسلمون: شر ما منيت به النفوس يأس يميت القلوب، وقنوط تظلم به الدنيا، وتتحطم معه الآمال، إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا.
آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوام، يشكو غلاً وسقماً أو حاجة وفقراً، متبرم من زوجه وولده، لوام لأهله وعشيرته، ترى من كسدت تجارته، وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.
إن من العجائب -أيها المؤمنون- أن ترى أشباه رجال قد أتخمت بطونهم شبعاً ورياً، وترى أولي عزم ينامون على الطوى.
إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهد دونه، وفيها من يستشهد دفاعاً عن الحق وأهل الحق، تلك هي الدنيا تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت، شدة ورخاء، وسراء وضراء، دار غرور لمن اغتر بها، وهي عبرة لمن اعتبر بها، إنها دار صدق لمن صدقها، وميدان عمل لمن عمل فيها: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:٢٣] .
تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، يبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥] ولكن إذا استحكمت الأزمات وترادفت الطوائف؛ فلا مخرج إلا بالإيمان بالله والتوكل عليه وحسن الصبر، ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط.
إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه؛ وطن نفسه على احتمال المكاره، وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمل فيه جميل العواقب، وكريم العوائد، كل ذلك بقلب لا تشوبه ريبة، ونفس لا تزعزعها كربة، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتية: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:١٨٦] .
إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل، ولا يذهب بأعبائها إلا العمالقة الصبارون أولو العزم من الناس، أصحاب الهمم العالية: {أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه} حديث أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل} .
أيها المؤمنون: كم من محنة في طيها منح ورحمات، هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه، والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً بعده صبر أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة بالأمل، يقول لأبنائه في حاله الأول: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] ثم يقول في الحال الثاني، وهو أعظم أملاً، وبربه أكثر تعلقاً: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:٨٣] .
كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوديع، ثم يقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦] يقين أرسى من الجبال، وعلم بالله لا يرقى إليه شك، وإن من علمه ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] .