يا أيها الناس! منذ غابر الأزمان، وقبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان الناس على هذه البسيطة في جاهلية جهلاء، إبان فترة من الرسل قد انقطع الناس فيها عن المدد الروحي والنور الإلهي، فلأجل ذلك اعترتهم ظلمات العقائد والقوانين والأنفس؛ ظلماتٌ لا يجد فيها الحاذق بصيص نورٍ يهتدي به إلى هداية، أو يخلص به من ضلالة وينجو من غواية، بل هي ظلماتٌ بعضها فوق بعض، ظلماتٌ أودت بذويها إلى أن يتخبطوا في مهام الحياة ودروبها خبط العشراء، ظلماتٌ جعلت من عقول مشتمليها ودينهم أن يصنعوا معبوداتهم بأيديهم، فنحتوا ما يعبدون والله خلقهم وما يعملون، حتى عموا وصموا وضلوا وغووا، ثم انحط غيهم فعبدوا الأشجار والأحجار والستائر المنصوبة والتماثيل التي كانوا لها عاكفين.
لقد أغراهم بذلك غيبة إنسانيتهم، وإفلاس عقولهم بعد طيشها، حتى انتحرت فطرتهم وبقوا هواءً في جثمان إنس، يقول حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما متحدثاً عن هذه الحقبة من الزمن:[[صارت الأوثان التي في قوم نوحٍ في العرب بعد، أما ودّ فكانت لكلَّبٍ بـ دومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيفٍ بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لـ همدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت]] رواه البخاري.
عباد الله: لقد كانت العرب قبل هذا الأمر على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، فما فتئ الزمان يدور حتى قل العلم وهلك العلماء، لتحل الأصنام بين العرب من جديد، وتتبدل ملة إبراهيم عليه السلام وتتنسخ، وقد كان الذي تولى كبر هذه الشقوة والمعرة أبو خزاعة عمرو بن لحي، فهو الذي سيب السوائب، وعبّد الأصنام:{وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف يجر أمعاءه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وبدل دين إبراهيم عليه السلام} رواه مسلم في صحيحه، يقول ابن كثير رحمه الله: كان عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها.
أيها المسلمون: إنما خلق الله الثقلين الجن والإنس ليعبد وحده في الأرض، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالشريعة الغراء محاطة بقواعد قررها الشارع الحكيم متمثلةً في ضرورات خمس، أجمعت الأنبياء والرسل قاطبةً على حفظها ورعايتها، وهي: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، فكل مفسدةٍ يخشى أن تؤتى من قبل ضرورة من هذه الضرورات فإنه يجب درؤها، ودفعها أولى من رفعها، وكان على المتسبب فيها من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه انتشارها، ويتوالى تراكمه في صحيفة أعماله إبان حياته وبعد مماته، كمثل ما علا عمرو بن لحي حينما أدخل الأصنام وبدل دين إبراهيم، وعلى رأس هذه الضرورات الخمس ضرورة الدين والعقيدة وتوحيد الله.