الحمد لله على تقديره، وحُسن ما صرف من أموره، نحمده سبحانه على حسن خلقه وتصويره، وعلى إعطائه ومنعه، يخير للعبد وإن لم يشكره، ويستر الجهل على من يظهره، خوف من يجهل من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه جلَّ شانه، لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، بعثه الله رحمة للعالمين، ومِنّة للإنس والجن، بَراً حريصاً بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، عليه من الله أزكى صلاة وأتم تسليم، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:-
فيا أيها الناس: إنه لا أحوج للمرء المسلم ولا أبلغ في أن يذكر به ويوصى من تقوى الله سبحانه، فإنها الزمام، وبها القوام، فتمسكوا -رحمكم الله- بوثائقها، واعتصموا بحقائقها؛ تئول بكم إلى أكنان الدعة وأوطان السعة، ومنازل العز والرفعة، في يوم تشخص فيه الأبصار، وينفخ فيه الصور فتدك الشم الشوامخ والصم الرواسخ، فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومقرها قاعاً صفصفاً، وإلا فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، يوم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً.
عباد الله: أمر مقرر معلوم، لا إخاله خافياً على كل من يحمل مع روحه عقلاً صحيحاً وعلماً صريحاً، وهو أن لكل بداية نهاية، وأن البزوغ يعقبه الأفول، وآحاد العبادات من فرائض وسنن لها أوقات تحد للبداية والنهاية، بل إن طاقات البشر البدنية والنفسية -بلا استثناء- قد تقوى حيناً من الدهر، فتقوى بقوتها العبادة، كما أنها قد تضعف أحياناً، فتضعف بضعها العبادة ما خلا أمراً واحداً لا تعيق عنه العوائق، يستوي فيه الشرخ والشيخ، والصحيح والسقيم، والقادر والعاجز، والقائم والقاعد، بل والمستلقي على ظهره، لا يحتاج إلى استنهاض قوىً، ولا استجماع نشاط، أتدرون ما ذاك عباد الله؟
إنه ذكر الله تعالى، ذكر الله الذي لا يستساغ عذر منقطع عنه، كيف لا وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:{يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} رواه الترمذي وابن ماجة.
ذكر الله -أيها المسلمون- أمر الله جل وعلا به الحجاج بعد انقضاء نسكهم، بل وأمرهم أن يلهجوا به مع الإكثار منه فقال:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}[البقرة:٢٠٠] ، وهذه الآية عباد الله! لا تفيد بمنطوقها ولا بمفهومها، أن يذكر المسلمون آباءهم مع الله، كلا.
ولكنها تحمل طابع التوجيه إلى الواجب واللازم: وهو استبدال ذكر الله بذكر الآباء، بل إنها تؤكد على المسلمين أن يكونوا أشد ذكراً لله، ولا غرو في ذلك إذ المؤمنون هم أشد حباً لله، وذكر الله تعالى هو الذي يرفع العبد حقاً وليس هو التفاخر بالآباء، وما سوى ذلك من حطام الدنيا الفانية، وإن في الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنىً جلياً، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، فالمؤمن الصادق يعيش على ذكر الله، ويموت عليه، وعليه يبعث، فما طابت الدنيا إلا بذكره جلَّ وعلا.
يقول ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!