[القضية الفلسطينية والعدل]
أيها المسلمون! إنه من أجل إيضاح قضية العدل، وتجلية الممارسة الحقيقية لها في هذا الزمن، فلا بد أن نورد مقارنة بين سلوكين هما محط حديث الساعة، إنها المقارنة بين السلوك الحربي لجيوش المسلمين وغزاتهم، وبين سلوك جيوش غير المسلمين، ومنهم بعض جيوش الحضارة المعاصرة، وذلك من خلال منطقة واحدة، تعرضت في خلال ألفي سنة تقريباً لمرات ست من الغزو الخارجي، تلكم المنطقة هي أرض مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها فلسطين وبيت المقدس، فلقد تعرضت لهجوم الفرس الذين أثمروا إحراق المدينة، ونهبها، وقتل السلطان فيها، وإهانة المقدسات، وبعد أقل من عشر سنين، هاجم البيزنطيون هذه المنطقة، وانتصروا على الفرس المحتلين، فانتقموا منهم ومن اليهود الذين كانوا ساعدهم الأيمن شر انتقام، ولم يكن سلوك البيزنطيين آنذاك أقلَّ وحشية من سابقيهم.
ثم بعد ما يقارب العشر سنين انتصر المسلمون ودخلوا المدينة فاتحين، فلم يسفكوا فيها دماً، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة، ثم صدرت إبان ذلك الوثيقة العمرية المشهورة في زمن الفاروق رضي الله عنه، بحيث إن من يقرأها ويرى ما فيها من الإنصاف والعدل والسماحة فقد لا يظن أنها بين جيش منتصر وآخر مهزوم شر هزيمة.
وبعد عدة قرون من الزمن، اجتاحت حملة صليبية أرض المقدس، فانتصرت على أهلها، وكان معظم أهلها من المسلمين، ولكن ماذا كان السلوك الحربي لأولئك الغزاة؟ إنها كلمات قالها قائد تلك الحملة الصليبية، واصفاً بأن خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين، ويصفها مؤرخٌ أوربي آخر بقوله: لقد انحدرت جموع الصليبين في طرقات بيت المقدس تحصد الأرواح حصداً رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، حتى بلغوا عشرة آلاف قتيل.
وبعد أقل من قرنٍ من الزمن ينتصر جيش صلاح الدين على الصليبيين في موقعة حطين الحاسمة، وتفتح أمامه أبواب بيت المقدس ويدخلها المسلمون منتصرين غانمين، يظهرون من دروب السماحة والعدل والرحمة في حال الحرب ما أجبر مؤرخي الغرب على الاعتراف بذلك والإشادة به.
ثم تأتي الطامة الأخرى والوحشية العمياء، في العقد الثاني من القرن الماضي، ليدخل جيش الانتداب الأوروبي أرض فلسطين مع الغزاة اليهود، فيصنع فيها مجازر وحشية وألوان عدوانٍ، كان من أبشعها جرماً وأعظمها فتكاً مذبحة دير ياسين المشهورة، والتي وصفها أحد جزاريها القادة بقوله: كان لهذه العملية نتائج كبيرة، فقد أصيب الفلسطينيون بعد انتشار أخبار دير ياسين بالهلع، فأخذوا يفرون مذعورين، فلم يبق على أرض فلسطين إلا ما يقارب مائة وستين ألفاً، بعد أن كانوا يزيدون عن ثمانمائة ألف، ثم يقول هذا الجزار: لولا مذبحة دير ياسين ما كان يمكن لإسرائيل أن تظهر إلى الوجود.
ولم يكن هذا السلوك عباد الله منافياً لتصور الحضارة المعاصرة للعدل، ولأجل هذا منحته جائزة نوبل للسلام.
إذاً: هذه المقارنة عباد الله بين سلوك الجيوش المسلمة والجيوش الكافرة تدل على ما شهد به أحد كبار مؤرخي الحضارة المعاصرة: بأن التاريخ لم يشهد فاتحاً أرحم من المسلمين، ألا إن المسلمين دائماً هم الضحية ضد أي عدوانٍ غاشم، ولم يعرف يوماً ما أنهم كانوا هم المعتدون على أحد، بل حتى في هذا القرن المعاصر فهذه هي فلسطين والجزائر وليبيا وتونس ومصر والسودان وغيرها لم يكن أهلها قط هم المعتدين، بل كان المستعمر من أرباب الحضارة المعاصرة هو الغازي المعتدي.
ومن باب الأسف الشديد أن يصبح أرباب الحضارة المعاصرة في اعتماد إعلانهم على غفلة المجتمعات المسلمة وضعف ذاكرتها في استيعاب الأحداث الماضية، والسجلات المشينة، في النظرة الواقعية لمفهوم العدل عند الحضارة المعاصرة، ومن خلال سلسلة من الغزو والاعتداءات والبطش، ولو كانت أحداثاً لم تجف دماؤها بعد، وإلا فلماذا توصف المقاومات المسلحة في بعض الدول الإسلامية بادي الرأي من قبل رواد الحضارة المعاصرة على أنها حركات مقاومة ضد المعتدي، أو جيوبٌ انفصالية في وجه الظالم.
ثم بين غمضة عينٍ وانتباهتها تنقلب نظرة الحضارة المعاصرة، فتسميها هي الإرهابية المبرِّزَة، يجب أن تستأصل شأفتها وتوأد في مجدها.