[أسباب انحراف الحضارة المعاصرة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن المشاهد لواقع الحضارة المعاصرة اليوم، ليرى أن لانحرافها في تصورها للعدل نتيجة بديهية لا مناص منها، ألا وهي تشبع روحها بالأنانية والعدوانية وإرادة العلو في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٥] ولا أدل على هذه النزعة الشاذة مما يعد ثمرة هذا الواقع، وذلك من خلال إنتاج هذه الحضارة من أسلحة الدمار الشامل، ما بلغ كمية وكيفية مبلغاً يجاوز سلع الاحتياجات البشرية للطعام والشراب بأضعاف مضاعفة، ولقد عُلِمَ أن دولة من دول هذه الحضارة قد بلغ إنتاجها من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي لإفناء العالم ثلاثة وثلاثين مرة، وقبل عقودٍ من الزمن شيعت دولة كبرى موكباً من التوابيت الخرسانية لتلقى في قاع المحيط، حيث تضم وسطها شحناتٍ مروعةً من الغازات السامة بعد أن رأت هذه الدولة أن لديها فائضاً من هذا السلاح يكفي لإفناء العالم ست مرات.
وإن تعجبوا عباد الله! فعجبٌ تلك النزعة الشريرة في هذه الحضارة، إذ كان يكفيها شراً أن تنتج ما هو كفيلٌ بإفناء العالم مرة واحدة، وهنا مكمن الجبروت والعدوانية في الحضارة المعاصرة، فما ذنب العالم إذاً أن يدمر أكثر من ثلاثين مرة، ألا يكفي للحربين العالميتين مثالاً لهذا التصور المنحرف خلال ربع قرن أثمرتا من خلاله ما يعد بالملايين من القتلى.
عباد الله! إن كلامنا هنا ليس المقصود به الهجاء والتشفي في كشف عورة الحضارة المعاصرة، إذ الأمر أبعد من ذلك وأهم، وهو أن صيحات تعالت، ورجع صدىً يسمع في الأقطار الإسلامية أثمر التأثر بهذه الحضارة المعاصرة وزخرفها، فرأينا وسمعنا من بين ظهرانينا تبرير الظلم والعدوان من قبل تلكم الحضارة، وكذا تبرير ازدواجية معايير العدل عندها، في حين أنه كان المرجو في مقابل ذلك أن ينكشف للمسلمين هذا الزيف في تقييم العدل، وأن تتضح لديهم المعاني الرئيسة لمفهوم العدل عند تلك الحضارة، وأنه ليس هو العدل الذي بمعنى الإنصاف، ولكنه العدل الذي هو الميل والانحراف.
وهذا ما يضع على كل عاتق نصيبها من المسئولية أمام الله، من شعوبٍ وحكومات، وذلك بتدارك الأمر من خلال الرجوع إلى الله، ثم بالطرح الإسلامي الصحيح للتربية الواعية عبر المجالات التربوية، ومناهج التعليم، وتوعية الأجيال بحسنات الإعلان لا بسيئاته، ليقف المسلمون موقف العاقل أمام طوفان الحضارة المعاصرة الجارف، وأن يعلموا أن الحق لا يزري به أن تمر عليه سنين عجاف، ولا يضيع جوهره؛ لأنها عجاف، ولا يضيع جوهرة؛ لأن عللاً عارضة اجتاحت أهله، وليعلموا أن الباطل لا يسمى حقاً؛ لأن دورةً من أدوار الزمن منحتهم قوة، وأقامت له دولة في الأرض، إذ لم تتحول جرائم فرعون إلى فضائل؛ لأنه ملك سلطة الأمر والنهي، واستطاع قتل الأبناء واستحيا النساء، فلا ميزان للجميع إلا بمدى قربهم من الله أو بعدهم عنه.
كما يجب علينا جميعاً أن نتجرع الواقع المرير ولو لم نستسغه حتى نواجه الغارة الشعواء، ونستبين أغراضها الكامنة، في جعلنا قصة تروى، وخبر كان، قبل أن يجتمع علينا السالوك الخامس؛ وهو الهدم الروحي، والهدم التاريخي، والهدم العسكري، والذي غايته أن يتلاقى على أنقاضنا، فيا ترى هل يضيع الحق في حومة هذه الدائرة العمياء؟!
كلا.
فلقد مر آباؤنا الأولين بمثل هذه المحن، ثم خرجوا منها موفورين، بعد أن أصلحوا أنفسهم وأصلحوا ما بينهم وبين الله بالنصح الجاد، والتصحيح الواعي: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١] {وليأتين زمن تملأ فيه الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً} وذلك بلسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:١٩٦-١٩٧] .
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين!
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الرحمين!
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح بطانته يا ذا الجلال والإكرام.