للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقدمة عن القلق وخطره]

الحمد لله ولي الصالحين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، خلق فسوى، وقدَّر فهدى، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فعليه من الله أزكى صلاة وأتم تسليم، وعلى آله وأصحابه ومن سار على ملته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

فبادئ ذي بدء أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه في السر والعلن، والمنشط والمكره، فما خاب من اتقاه، ولا أفلح من قلاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:٢٩] .

أيها الناس! البال الرخي، والنفس الرضية، والصدر المنشرح، مطالب جليلة تصبوا إليها أفئدة بني آدم، وتروم نوالها كل نفسٍ لم تكتنفها دواعي الخذلان، أو مكابرة العاجز وبطر المستنكف، والمرء في هذه الحياة ما دام ذا روحٍ يقلبها فهو يعيش على أمرٍ قد قدر، وحينما يشب عن الطوق بعد نضارة الصبا ينهج في البحث عن الهنا لحياته نهجاً مستتباً، يرج نفسه رجاً شديداً، يظن أنه بين الرياحين السرمدية، يتهادى في دروبها كيف ما يحلو له، لا يذعره شيء حتى يبلغ نهايته المكتوبة، دون أن يُفكِّر هُنيهة أنَّ من عاش لم يخل من المصيبة، وقلَّما ينفك عن عجيبة، فيشاء الله غير ما يشاء هو، ويقدر غير ما قدر هو، وتخيب ظنون المرء في جُلِّ ما كان يؤمل، وتنقلب آحادها رأساً على عقب، متخطفاً عن السير إما في أوائله أو أواسطه، بله بلوغ نهايته المشرئب إليها، ثم يكون ما يكون، ولقد صدق من قال:

ما عند يومي ثقة لي بغدِ لا بد من دار خلود الأبدِ

صح عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً} لقد صدق رسول الله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، نعم! لقد صدق، فأين هم الذواقون لطعم الإيمان؟ وأين في الذواقين من يظهر أثر الذوق لهذا الطعم في نفسه وروحه وسلوكه بل وحياته كلها؟

ألا وإن حملة الأدوية التي ينفعون بها ولا ينتفعون منها كثرة كاثرة على هذه البسيطة، وهم:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

{ورب مبلغٍ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه} .