[التحذير من الفتن والانجرار خلفها]
أيها المسلمون! إن من خصائص رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنه ما من خيرٍ إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه، وقد كان مما حذَّر الأمة منه: الفتن التي تكون في آخر الزمن وتكاثرها، والغواسق التي تحيط بالأمة من كل جانب، فتموج بهم كموج البحر حتى أنها لتدع الحليم حيراناً، بل ولربما تستمرئها النفوس الضعيفة، وتستشرف لها رويداً رويداً إلى أن تلغ في حمأتها وهي لا تشعر، فإذا ألفتها لم تكد تتحول عنها إلا في صعوبة بالغة بعد أن تفقد خصائصها، ومِنْ ثمَّ تميع وتذوب، ثم:
ما لجرحٍ بميت إيلام
وإذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
حتى تقع النفس في أتون الفتن؛ فتحترق بلا لهب، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من استشرف لها تستشرفه الحديث} .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله ما معناه: "قوله: من استشرف لها، -أي: تطلع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يُعرض عنها".
وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج.
قالوا: يا رسول الله! وما الهرج؟ قال: القتل، القتل} .
عباد الله: إننا في زمن تداعت فيه الفتن كداهية دهياء؛ فقلَّت فيه الأمانة، ونُزِعت فيه الخشية من الله، وتنافس الناس فيه على الدنيا وحضوض النفس، وكّثُرَ فيه القتل وبلغ أوج صوره على اختلاف تنوعه، حتى لربما لا يدري القاتل فيم قَتَلَ، ولا المقتول فيم قتل، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه.
ولكن لمستفهم أن يقول: ما النجاة في خضم هذه الأحداث؟
وما موقف المؤمن من متغيرات زمانه وفجاءة النقمة فيه؟
والجواب على هذا بين بحمد لله، فإن لكل داءٍ دواءً، علمه من علمه وجهله من جهله.
والدواء في مثل هذا كثير التنوع.
فمن ذلك:
أولاً: حمد الله على العافية، مما ابتلى به كثيراً من الناس من الفتن والرزايا، والحروب المدمرة، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة والإيمان بأن ما يريده الله كائنٌ لا محالة، وأن ما أصاب الناس لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:٤١] .
جاء عند مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مبِينٍ} [لأنعام:٥٩] } .
فلا إله إلا الله ما أوسع علم الله! انظروا إلى الأحداث والمستجدات -عباد الله- كيف تحل بنا فجأة على حين غرة، دون أن تقع في ظن أحدنا، أو يدور بخلده أن أحداثاً ما ستكون يوماً ما، مما يُؤكد الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واللجوء إليه وخشيته وحده بالتوبة والإنابة، وكثرة الدعاء، والاستغفار، والصدقة، وبذل الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا ملجأ من الله إلا إليه، ألا إن من خاف البشر فرَّ منهم، غير أن من خاف الله فإنه لا يفر إلا إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:٥٠] ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يرد القدر إلا الدعاء} .
ألا وإنما يحدث في هذه الأزمنة من كوارث تحل بنا بغتة ليُذكرنا باليوم الذي تقوم فيه الساعة والناس في غفلةٍ مُعرضون، مع ما يتقدمها من أماراتٍ وأشراط تدل عليها، فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي منه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها} كل ذلك -يا عباد الله- دليل على فجأة النقمة، وأن نفساً لا تدري ماذا تكسب غداً، ولا تدري بأي أرض تموت.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أنه ينبغي للمرء المسلم في خضم الأحداث الرهيبة، والمتغيرات المتنوعة، ألا يُصاب بشيء من الاستغسال مع مشاعر القنوط واليأس، وألا يحبس أنفاسه مع الجانب الذي قد يكلح في وجهه على حين غفلة من جوانب الخير الأخرى في حياته، دون التفاتٍ إلى المشوشات من حوله، والتخوفات التي ليس لها ضرير.
فليس بلازم عقلاً أن تكون تلك المخاوف صادقة كلها، فلربما كانت كاذبة؛ إذ قد تصح الأجسام بالعلل، وقد يكون مع المحنة منحة، ومع الكرب فرج، وإن مع العسر يسرى ولن يغلب عسرٌ يُسرين، وإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.