لقد مضى عهد السلف الصالح، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وختمت كما وضعت، لا يستطيع أحد أن يخرج للناس من حقيقتهم نصف حقيقة، ولا شبه حقيقة، ولا تزويراً على حقيقة، إنما هي لا غير، الحقائق كلها قد اكتنفوها، ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم؛ بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص وإن كان حرماناً، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الصادقين وإن كانت ألماً، وإلا الجد وإن كان عناءً، وإلا القناعة وإن كانت فقراً.
إن من النجاة: الفكر في البلاء والتفكر في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله؛ فيكون علاجاً يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتلجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة.
إن النفس ينبغي أن ترغب بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن، وأن تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصر جديد، ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه أن يحمل في نفسه معنى الناس لا معنى نفسه؛ لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة، إن الناس أحرار متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة والتواد والتعاطف تحت ظل الإسلام الوارف، قال صلوات الله وسلامه عليه:{مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} رواه مسلم.
وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم في مقابل استبعاد كل تلك المعاني الحيوية التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج في الحياة بعضها ببعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استقصى زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح.
وتكون يقظة التاجر في غفلة الشاري، فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم؛ فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة في النفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء والقسوة والجزع.