الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، ولي الصالحين، ومجيب دعوة المضطرين {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}[الحديد:٣-٤]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:١٠] له الحكم كله وإليه يُرجَع الأمر كله، وبيده الخير كله {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص:٧٠] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير مرسول وأشرف متبوع، بالحق قضى، وللحق دعا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن سعادة المؤمن ورفعته تبدو مُجَلاَّة في تقواه لربه، إذ بالتقوى يُذكَر، وبالتقوى يُنصَر، يطيع فيُشكَر، ويعصي فيُغفَر، فليتق الله امرؤٌ حيثما كان، وليُتْبِع السيئة الحسنة تمحها، وليخالق الناس بخلق حسن {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}[هود:١١٤]{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}[طه:١٣٢] .
أيها الناس! قاعدةٌ من قواعد التفسير مقررة، كشف معناها علماء التأويل وأئمته، وعدوها معنى من معاني التشريف والتكريم، ما جاءت أفرادها في القرآن إلا وفُهِم منها علو المكانة، ورفعة المنة بها، ونعمة الإيجاز التي يمن الله بها على عباده من مخلوقاته في الأرض وفي السماء، تلكم القاعدة -عباد الله- هي: أن لله -جل وعلا- أن يُقْسِمَ بما شاء من مخلوقاته في سمائه وأرضه، كالليل، والقمر، والشمس، والنجم، والطارق، والفجر، والعصر وغيرها من المخلوقات.
وهذا القسم من الله أمارة على المكانة، والاختصاص من بين سائر المخلوقات، وإذا ما أرسلنا الطرف رامقاً بين دفتي كتاب الله جل وعلا؛ فإننا -ولا جرم- سنجد أن هناك قسَماً من بين تلك الأقسام الجليلة، قسَماً أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، نزل به الروح الأمين، قسماً أنزله الله تسلية وتثبيتاً لخاتم الرسالات والمرسلين، قسَماً من الباري -جل شأنه- في مقابل تكذيبٍ وعنادٍ يصرخ به كفار قريش وصناديدهم، إنه قول الباري جل وعلا:
بسم الله الرحمن الرحيم {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:١-٢] الإقسام من الله لا يُتبَع إلا بشريف ما أبدع، وكريم ما صنع، لقد أقسم الله بالكتاب وآلته وهو القلم، الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته.
والقلم -عباد الله- اسم جنس لكل ما يُكتب به، وهو أول مخلوقات الله تعالى، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{إن أول ما خلق الله القلم} الحديث.