[الإسلام منهج حياة]
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، المتوحد بالجلال لكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، سبحانه لا يحاط بشيء من علمه إلا بما شاء: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:٢٥٥] لا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء الطيبين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد:
فإن الوصية المبذولة لي ولكم -عباد الله- هي تقوى الله سبحانه في سركم وعلنكم، في الغيب والشهادة، في الغضب وفي الرضا: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧] الذين تدفعهم تقواهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعبيده: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:٤٩] .
أيها الناس: لقد أشرق الإسلام بتعاليمه وآدابه السمحة؛ فأقر كل شيء وجد في الأخلاق الأصيلة، وغسلها مما علق بها إبان قرون من الأوضار الدخيلة والعلوق المرذل، لقد بعث الباري جل وعلا مصطفاه وخليله صلوات الله وسلامه عليه؛ لحفظ مصالح الخلق ومقاصدهم، وسد كل ذريعة تخدش دينهم أو تهز كيانهم، ولأجل هذا الأس شرع الله الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد المسكر لحفظ العقل، وحد الزنا لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال، وعقد الزوجية لحفظ النسب.
إن الله سبحانه خلق الناس طراً من أبوين اثنين؛ ليجعل من هذه الرحم ملتقى تتشابك عنده صلات بني آدم وتستوثق عراهم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:٧٢] لقد فطر الله الناس على حب غريزتين كل منهما مكملة للأخرى، أولاهما: غريزة لبقاء ذاته، وأخراهما: غريزة لبقاء نوعه.
فبالأولى يسوقه لذع الجوع وفورة العقل إلى تحصيل الطعام والشراب، دفعاً بالري والشبع لما قد يكون قشة قصمه.
وبالثانية: تسوقه نار الشهوة المتأججة إلى تحصين فرجه ليحفظ بالحلال نسله وعرضه، وكما يأكل المرء باسم الله كذلك يباشر زوجه باسم الله، وبانضمام النية الصالحة إلى هذه الأعمال المعتادة وهي شهوات فإنها تكون عبادات متقبلة.
إن الإنسان الذكر نصف الوحدة، ما يبلغ يوماً تمامه إلا إذا انضم إليه نصف آخر، يلقى به ربه على أحسن حال من الطهر والعفاف، وفي كثرة نسله من هذا الصنف الآخر مصلحة خاصة وعامة، يساعدان على تكثير سواد الأمة واتساع بيضتها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة} رواه أبو داود والنسائي وفي المثل المضروب: إنما العزة للكاثر.
ولا تزال هذه حقيقة قائمة لم يطرأ عليها ما ينقضها.
أيها المسلمون: صح عند البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حديث مفاده أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: نحو هو نكاح الناس الشرعي، ونحو يسمى نكاح الاستبضاع: وهو أن يرسل الرجل امرأته إلى من يطأها؛ لأجل أن يؤثر ذلك في نجابة الولد، والنحو الثالث: أن يجتمع الرهط على امرأة واحدة كل منهم يطأها فإذا حملت جمعتهم ونسبت الولد لمن تشاء منهم فلا يستطيع أن يمتنع، والنحو الرابع: نكاح البغايا اللاتي ينصبن الرايات على أبوابهن فإذا حملت ووضعت دعوا لها القافة وهم الذين يشبهون الناس ثم يلحقون الولد بالذي يرونه فلا يستطيع أن يمتنع.
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم.