ألا فاعلموا -عباد الله- أن السفر في هذه الآونة يختلف عن السفر في قرون مضت، فقد مُهِّدت الطرق، وجرت عليها العربات الآلية، بشتى أنواعها المُبْدَعَة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاءوا، أو تقلهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا.
كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتم في شهور بشق الأنفس أضحى يتم في أيام قصيرة، بل وساعات قليلة، وبجهود محدودة، بل ولربما عطس رجل في المشرق، فشمته آخر في المغرب.
وهذا -أيها الإخوة- مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة تقارب الزمان، كما عند البخاري في صحيحه.
ومع هذه الراحة الميسَّرة فإن الأخطار المبثوثة هنا وهناك لم تنعدم.
ففي الجو يركب المرء طائرة يمتطي بها سَبَجَ الهواء، معلقاً بين السماء والأرض، بين مساومة الموت، ومداعبة الهلاك، فوق صفيحة مائجة قد يكون مصيره معلقاً -بأمر الله- في خلخلة مسمار أو إعطاب محرك، مما يؤكد الاحتماء بالله, وارتقاب لطفه المرتجى بلزوم آداب السفر، والبُعد عن معصية الله، في هوائه، بين سمائه وأرضه، المستلزمة -وجوباً- إقصاء المنكرات من الطائرات، والتزام الملاحين والملاحات بالحشمة والعفاف، والبُعد عما يثير اللحْظ، أو يستدعي إرسال الطرف.
وإن تعجب -أيها المسلم- فعجب ما يفعله مشركو زمان النبي صلى الله عليه وسلم من اللجوء إلى الله في الضراء! {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:٦٥] .
وبعض عصاة زماننا سراؤهم وضراؤهم على حد سواء، فقبح الله أقواماً مشركو زمان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بـ (لا إله إلا الله) منهم.
أيها المسلمون: إن التقارب في الزمان والمكان، بما هيأ الله من أسباب السرعة لَهُو نعمة عظمى، ورحمة جُلَّى، تستوجبان الشكر للخالق، والفرار إليه، في مقابل التذكر فيما فعله الله جل وعلا بقوم سبأ الذين كانوا في نعمة وغِبْطَة من تواصل القرى، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}[سبأ:١٨] ولكن لما بطروا نعمة الله ومالت نفوسهم إلى ضيق حالهم: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[سبأ:١٩] ففرق الله شملهم بعد الاجتماع، وباعد بينهم بعد التقارب، حتى صاروا مضرب المثل.
ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ.