[القيام والدعاء في رمضان]
عباد الله! شهر رمضان المبارك شهر رحب، وميدان فسيح، يوطد المرء نفسه من خلاله على أن يحيي ليله، وعلى ألا يلجأ في حوائجه إلا إلى قاضيها سبحانه، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه، وهو يقضي ولا يقضى عليه، فثلث الليل الآخر هو وقت التنزل الإلهي على ما يليق بجلاله وعظمته إلى سماء الدنيا إذ يقول: {هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟} ترى هل فكر كل واحدٍ منا في استثمار هذا الوقت العظيم الذي هو من آكد مظان إجابة الدعاء؟!
ترى ما هي أحوال الناس مع ثلث الليل الآخر؟!
بل كم من شاكٍ لنفسه قد غاب عنه هذا الوقت المبارك؟!
كم من مكروبٍ غلبته عينه عن حاجته ومقتضاه؟!
كم من مكلوم لم يفقه دواءه وسر شفائه؟!
كم وكم وكم؟
ألا إن كثيراً من النفوس في سباتٍ عميق، إنها لا تكسل في أن تجوب الأرض شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، باحثة عن ملجأ للشكوى، أو فرصة سانحة لعرض الهموم والغموم على من تقصده من بني البشر، غافلةً غير آبهةٍ عن الاتجاه إلى كاشف الغم، وفارج الهم، ومنفس الكرب قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:٨٨] ، {أَمَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:٦٢] ، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:١٣-١٤] .
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة ويفتح لها أبواب السماء ويقول: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين} .
غير أن ثمة أمراً مهماً عباد الله، وهو أن كثيراً ممن يرفعون أكف الضراعة بالدعاء إلى الباري جل شأنه، قد يستبطئون الإجابة، ولربما أصابهم شيءٌ من اليأس والقنوط قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٦] ، بيد أن هناك خللاً، ما هو السر الكامل في منع إجابة الدعاء:
كأن يكون المرء ممن يستعجلون الدعاء ويتحسسون الإجابة على تململٍ ومضض.
وهذا مانع أساس من الإجابة لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي} رواه البخاري ومسلم.
ولربما لم يستجب الدعاء لما فيه من الإثم، أو قطيعة للرحم، أو أن يكون الدعاء المنبثق من شفاه الداعين غير مقترنٍ بالقلب اقتران الماء والهواء للروح؛ لأن اللسان ترجمان القلب وبريده، والقلب خزانة مستحفظة الخواطر والأسرار ومسارب النفس الكامنة، فالدعاء باللسان والقلب غافلٌ لاهٍ إنما هو قليل الجدوى أو عديمها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله لا يقبل الدعاء من قلبٍ لاه} رواه الحاكم والترمذي وحسنه، فالقلب إذاً لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا الصارفة، ومن المعلوم بداهة أن المتلفت لا يصل سريعاً.
فالله الله! أيها المسلمون في الدعاء! فهو العبادة ومخها، وهو السهام النافذة لذوي العجز وقلة الحيلة، ولا يحقرن أحدكم الحوائج مهما قلت أو كثرت فإن الله أكثر، وقد قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠] .
وبعد يا رعاكم الله! نقول لذوي المصائب والفاقات، والهموم والمقلقات، خذوا هذا المثل عبرة وسلواناً، يتجلى من خلالهما أثر الدعاء في حياة المرء، وأنه لا غنى له عنه ما دام فيه عرق ينبض، إذ هو الدواء إذا استفحل الداء، وهو البرد إذا اشتد الحر.
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يومٍ فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: {يا أبا أمامة! مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: همومٌ لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قال: بلى.
يا رسول الله! قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبت الدين وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني} رواه أبو داود.
وعند أحمد والترمذي أن علياً رضي الله عنه جاءه مكاتبٌ يشكو إليه ديناً عليه فقال علي رضي الله عنه: {ألا أعلمك كلماتٍ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبلٍ ديناً أداه الله عنك، قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك} قال الترمذي: حديث حسن.
فاللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك اللهم من غلبت الدين وقهر الرجال.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.