إن العقول السوية والفطرة السليمة، لن تخرج عن إطارها؛ إذا اعتبرت النفس الصالحة هي البرنامج الوحيد لكل إصلاح، وأن ترويضها للاستقامة وتذليلها للطاعة هو الضمان الحي لكل حضارة ورفعة، وإن النفس إذا اختلَّت وزلَّت أثارت الفوضى في أحكم النظم، والبلبلة في كنف الهدوء، واستطاعت النفاذ من ذلك إلى أغراضها الدنيئة، ومطامعها المريبة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلفة، ويشرق نُبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير.
إن القاضي المسلم النزيه يكمل بعدله وتقواه نقص المتداعين الغششة، والقاضي الجائر يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة، ولي أعناقها؛ لتحقيق رغباته، وإشباع شهواته، وقائد القاضيين كليهما هي النفس {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:٧-١٠] .
أيها الناس: إن أصعب الأشياء مجاهدة: النفس ومحاسبتها؛ لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، وقدرة رهيبة، فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب؛ فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن آخرين بالغوا في خلافها حتى ظلموها ومنعوها حقها، وأثر ظلمهم لها في تصرفاتهم وتعبداتهم، ومن الناس من أفرد نفسه في خلوة وعزلة؛ أثمرت الوحشة بين الناس، وآلت به إلى ترك فرائض أو فضل؛ من عيادة مريض؛ أو بر والدة.
وإنما الحازم المحكم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول، فالمحقق المنصف: هو من يعطيها حقها، ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركة بركة، ومحاسبة النفس حياة، والغفوة عنها لون من ألوان القتل صبراً.