أيها المسلمون: التواضع بين المسلمين خصلة مرجوة، هي أسٌ في خلق المجتمعات، ومقبض رحى حسن الاتصال بينهم، لها مواد من الحكمة، وأضداد من خلافها، بتمامها وصفائها يميز الله الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود المرباد المجخي كما الكوز.
إنه لا بد أن يكون للتواضع بين ظهرانينا محلٌ طريٌ لين، لم تستحكمه الشهوات ولا المصانعات، محلٌ يهش أمامه ويبش، محلٌ يوحي إلى المجتمع أنهم ليسوا غرباء ولو تفرقت نواحيهم، وإلا كان تواضعاً مفقوداً في تيه العقل المادي الذي اكتسى فاقده ثياب كبرٍ مدمرة لا يهش له الناظر بل تغض منه العيون وتنبو عنه الأفئدة الحية، وينفض الناس من حوله، وحينئذ يكشف مضمار المجتمع عن الستار المسدل في صراع الأخلاق المحموم بين طغيان الأنفة وطغيان الإعواز إلى التواضع.
إنه لا ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يمتنع عن التواضع أو يجبن عن تحقيقه إذ به تكتسب السلامة، وتورث الألفة، ويرفع الحقد، ويشعر الجميع بحقوقهم تجاه غيرهم والعكس بالعكس، ألا فإن تواضع الشريف إنما هو زيادة في شرفه، كما أن تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب اليم.
فيا سبحان الله! كيف لا يتواضع من خلق من نطفة مذرة، وآخره يعود جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة أجلكم الله؟! إنه لو لم يكن في التواضع خصلة تحمد إلا أن المرء كلما كثر تواضعه كلما ازداد بذلك رفعة لكان الواجب على كل واحدٍ منا ألا يتزيا بغيره، ولا جرم -عباد الله- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:{ما من امرئ إلا وفي رأسه حكمة -يعني: كاللجام- والحكمة بيد ملك إن تواضع قيل للملك: ارفع الحكمة، وإن أراد أن يرفع قيل للملك: ضع الحكمة} رواه الطبراني والبزار بسندٍ حسن.