للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هزائم المسلمين في الحاضر ليست بدعاً في تاريخهم الطويل

أيها الأحبة في الله: يخطئ كثيراً من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر كانت بدعاً في تاريخهم الطويل، كلا.

فالأمر ليس كذلك، بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة، ويهبط أخرى، بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من لم يغز أو يجهز غازياًَ أو يخلف غازياً في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة} والقارعة: هي الداهية.

لذا فقد هبط أمر المسلمين في قرون النضج، حتى اغتصب الحجر الأسود، فما عاد إلى موضعه إلا بعد سنين عدة مؤن، ولكن هذا التاريخ الذي هبط سرعان ما علا وارتفع، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين يتأرجح بين مد وجزر في صورةٍ حقيقة لا ينكرها إلا مكابر.

أيها المسلمون: إن الناظر في واقع العالم اليوم، إن كان ذا لبٍ وبصيرةٍ، فإنه لن يتمالك من قوة الفهم إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس، فهاهو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع؛ حتى أصبحت متمركزةً في معسكرات الكفر، بحيث لا يفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرونٍ مضت لا يتجاوز سيوفاً ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يحرك ساكناً حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله.

إن كان ذلك هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين، فإن أسلوبهم في هذا العصر ينطلق من محاور متعددة؛ أورثت لدى المسلمين جبناً وخوراً، فلا حول ولا قوة إلا بالله!

وانطلقوا يغزونهم في عدة ميادين تمثلت في إنشاء التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي والصحي، والتحدي الثقافي في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية، والإعلامية، وإثارة الحروب الأهلية، والنعرات الطائفية، إنها حربٌ شعواء لا هوادة فيها!

إن أهل الكفر هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية، أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبياً عندهم من يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو باسم القوانين الخاصة أو القوانين العامة، أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المهزول حقاً هو ذلك الضعيف المهزول الجاثي على ركبتيه المهزولتين، أمام تلك القوى الكافرة الظالمة يستجديها حقه ويسألها إنصافه، ويطلب إليها بمجمعه لا بمدفعه أن يمسح الدم عن أظفاره الدامية، ويطهر دمه من لحوم الضعفاء الأبرياء، ويناديه باسم المدنية، وباسم الحقوق الإنسانية، وصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة لا تذكر العدالة، ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم، أما الضعيف العاجز عن المدافعة فماله عندهم إلا التنديد زعموا ومعناه: إفساد الأخلاق والأذواق والعقائد، والاستعمار ومعناه: الجوع والجهل، والتطبيع وسائر ما للبأس والشقاء من مظاهر ومعانٍ.

كل ذلك -أيها المسلمون- مصداق لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أومن قلةٍ نحن يا رسول الله؟! قال: لا.

بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل} هجمت عليهم الدنيا فتنافسوها؛ فقلبت موازين الحياة عندهم ونسوا قول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:٦٠] ونسوا قول الله عز وجل: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:١٧٥] ونسوا قول الله عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:١٦٠] ونسوا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم} انقلبت موازين الحياة عندهم؛ فأخرجت سنة المدافعة، وظنوا أن الشجاع المقاتل يقتل دون الجبان المسالم، المقر للخصم في دينه وملته وأرضه، حسبوا أن الجبناء أطول آجالاً من الشجعان فقالوا:

يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول

ولأجل هذا تجد كل من يحرصون على الحياة يهرعون إلى السلم والمسالمة، والحقيقة الواضحة في هذا العصر -أيها المسلمون- على العكس من ذلك، فإنه لا يقتل غالباً إلا الجبان، ولا يقع في الحرب إلا الهارب إلى السلم، ولا ينال الشر إلا أهل الدعة واللين والخوف.