[وقفات مع ظاهرة الحزن والاكتئاب]
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، الذي أخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، سبحانه هو أمات وأحيا، وأضحك وأبكى، أنزل علينا الكتاب والفرقان، ليهلك من هلك عن بينه، ويحيا من حيَّ عن بينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن فيها العز بعد الذل، والأمن بعد الخوف، والنجاة يوم الورود: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:٧١-٧٢] .
عباد الله: إن من يتحسس واقع الناس بعامة، وواقع المسلمين على وجه الخصوص، في زمن كثرت فيه المعارف وقل فيه العارف، زمن بلغت آليته أوج تقدمها، ونالت الحاضرة المادية فيه شأواً بالغاً، زمن هو غاية في السرعة المهولة، سرعة اقتصادية، وأخرى طبية، وثالثة عسكرية ومعرفية.
إن من يتحسس هذا الواقع على وجه الإنصاف والوضوح، فسيمثل أمامه أن هذه المسارعة بقضها وقضيضها، لم تكن كفيلة بإيجاد الإنسان الواعي المدرك لحقيقة وجوده على هذه البسيطة.
نعم عباد الله هذه هي الحقيقة مهما امتدت حبال هذا التقدم العصري، وإلا فمن يخبرنا عن سر انتشار الجهل وتضلعه في عصر تقدم المعلومات؟ وما هو سر شيوع الفقر والمسكنة في عصر الكنوز والغنى؟ وما سر سيطرة البطالة في عصر الإنتاج والصناعة؟ وقولوا مثل ذلك متسائلين: ما هو سر وصف بعض الباحثين في الشئون الاجتماعية على المستوى العالمي هذا العصر بعصر الحزن والاكتئاب، بعد أن أطلق على فترة قريبة منه سابقة عصر القلق؟
إننا في الحقيقة لسنا بحاجة إلى مزيد أدلة تؤكد ما يكابده هذا العصر من تغلغل هذه الظاهرة واستشرائها.
الحزن والاكتئاب -عباد الله- هما آفة العصر المدمرة، وهما أوسع الآفات النفسية انتشاراً في العالم، وأكثرها لدى الناس شكاية إلا ما شاء الله، وهي لا تزال في ازدياد ملحوظ كلما ازدادت الإصابة بها، ثم إن المترقب لآخر الإحصائيات الصحية العالمية، ليجد أن ما يقارب (١٠%) من سكان العالم يعانون من آفة الحزن والاكتئاب بما في ذلكم بلاد المسلمين، وهذا يعني بداهة: وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير، وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن الأجيال التي ولدت في هذه العقود الأخيرة يبدأ عندها هذا الحزن والاكتئاب في سن أصغر وبمعدلات أكبر، نظراً للعوامل الاجتماعية التي تخللت تلك الجسوم بسبب تهلهلها، وضياع الأثر البيئي الناضج فيها، كما وجد أن هذا الداء ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من انتشاره بين الذكور، بنسبة تصل إلى الضعف تقريباً وذلك بسبب فقدان الوظيفة الحقيقية للمرأة، وتحميلها ما لا تطيقه، من الأعباء الحياتية، والتي أودت بها إلى ترك بيتها، والزج بطفلها بين أحضان الخادمات، وعقول المربيات الأجنبيات، بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب الحزن والاكتئاب الشديد ما يزيد على ثمانمائة ألف شخص في العالم كل عام، ناهيكم عن كون (٨٠%) من المصابين به، لا يذهبون إلى الأطباء ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهنا مكمن العجب.
إن هذه الظاهرة -عباد الله- ليست وليدة هذا العصر، ولا هي من الأدواء التي لا يعرف لها ما يقاومها، أو يزيل عمق وجدها في المجتمعات، كلا.
بل هي ظاهرة مرهونة بمدى انغماس الكثرة الكاثرة في متاع الحياة الدنيا، وسيطرة النظرة المادية الصرفة، ثم إن تفاوت المجتمعات في درجات هذه الظاهرة، ليكمن في مدى إيمانها بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم والآخر، والقدر خيره وشره، ثم في استقامة السلوك الاجتماعي، بأمنه وإعلامه وتعليمه، واستقرار العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة، وحب الذات، وهلم جرا.
لقد سيطرت هذه الظاهرة، سيطرة مزدوجة على اهتمامات وأبحاث الكاتبين عنها، من بحاثة شرعيين، وأطباء نفسيين، وآخرين من صحفيين نقلة، ولربما تناولتها الأقلام باللت والعجن بين الحين والآخر، غير أن هذه المطارحات على تنوعها واختلاف منطلقاتها، لم توفق في أن تجتمع تحت مظلة واحدة، تجمع في علاج هذه الظاهرة، بين الأصالة والمعاصرة، بين الطب الشرعي الروحاني وبين الطب النفسي الإكلينيكي الموثق، والذي يقوم عليه متخصصون من ذوي الأمانة والغيرة، ممن يخضعون دراساتهم في الطب النفسي للشريعة الغراء بعيداً عن النظريات المادية البحتة المتجردة عن معاني الروح والسمو.