للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف الحضارة المعاصرة تجاه الشعوب المسلمة]

الحضارة المعاصرة عباد الله! رسمت لنفسها صورة صناعية تقنية، فاقدة للتقوى، أو لمفهوم التراحم والعدل الإنساني على أقل تقديرهم، فتحولت إلى حضارة استكبارية بطشية، تركت الجدال بالحكمة، وجادلت الناس على متن المقاتلات ورءوس المدرعات، حتى جعلوا من ذواتهم أشباحاً مرهوبة، وجعلوا حقوق من سواهم من الناس ندامات ممضوغة يلفظونها بعد العلك بل لمخالب القوى الباطشة، وهي لا تريد من هذه المستعمرات الشافعة إلا أن تجعلها حقول استغلال، ومن ثم اتخاذ أهلها خدماً يعملون ويكدحون ليشقوا هم ويسعد الغازي المعتدي.

ولأجل هذا نجحت ثورة البركان العسكري في الحضارة المعاصرة في أن تجعل معظم العالم الإسلامي اليوم يألف ألواناً من الاعتداءات السياسية والاقتصادية، حتى لقد أصبح الأمان لديهم شبه سرابٍ بقيعة لا يبلغه أحد، ومما لا شك فيه أنه كلما قلت صحوة المسلمين كلما ازداد الوله إلى هذا السراب، والتشبث به، ولقد صدق الله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:٢٠] .

ولأجل هذا احمرت جوانب تاريخ هذه الحضارة بدماء الضحايا المسفوكة، فقاتلت الشعوب المتطلعة إلى حريتها وحرمتها من أسباب العلم والقوة والنهوض، ولا يغرنكم عباد الله ما تبثه الحضارة المعاصرة بين الحين والآخر من شعارات الإخاء، والعدل، والحرية في التدين، نعم لقد فصلوا هذا الشعار للعالم إلا للمسلمين، وإن كان ولا بد فلا أكثر من أن يكون مقطوع الصلة بكرامة الإنسان التي أرادها الله له من خلافة الأرض وعبادة الله فيها، وإقامة العدل بين أرجائها، وزيادة على ذلك، فعلى الإسلام أن يكون محايداً بإزائهم مسايساً لهم.

أما أن يؤيد الدين حقوق الإنسان، ويأمروا الناس أن يدخلوا في السلم كافة فلا؛ لأن الإسلام عندهم هو وحده الذي يجب إبعاده عن الحياة العامة، أما ما عداه من الديانات والنحل فليكن بصرها دولٌ، ولترسم على خطاها سياسات.

ولأجل هذا لاطفوا عبدة الأوثان بروح أطيب ونفسٍ أهدأ، فأي حضارة هذه بربكم؟!

وبهذه الصورة لم يبعدوا النزعة أولئك المتخصصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: إن مثل هذه التصرفات يؤسس على مبدأ النصيحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قطاع الطريق أو لدى أي تجمع مفترسٍ في الغابة، وما الضمانات التي تمثلها مواثيق العدل العالمية المزعومة للمحافظة على أمن الشعوب إلا فيما لم يكن للمسلمين أو العرب فيه طرفاً في صراعٍ ما، أما إذا كان الحيف واقعاً على شعبٍ مسلم، أو قطرٍ عربي فقد أصبغوا للقضية لوناً آخر، فهل يفزع بالمنكوب حينئذٍ إذا أساء بالحضارة ظنه؟!

إن مثل هذه الممارسات، هي التي جعلت عدداً ليس بالقليل من عقلاء الحضارة المعاصرة لا يزالون يطلقون صيحات النذارة لأقوامهم، ويحذرونهم سوء المصير، فهل يعي المسلمون ذلك؟!

ألا إن من سنن الله تعالى، أن وضع هذه الحضارة تحصد ما تزرع، وتعرف طعم الجذاذ عند الحصاد.

فما طار طيرٌ وارتفع إلا كما طار وقع

{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد:٣١] .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.