للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية مجاهدة النفس ومحاسبتها]

إن العقول السوية والفطر السليمة لن تخرج عن إطارها إذا اعتبرت النفس الصالحة هي البرنامج الوحيد لكل إصلاح، وأن ترويضها للإستقامة وتذليلها للطاعة هو الضمان الحي لكل حضارة ورفعة، وإن النفس إذا اختلت وزلت صارت الفوضى في أحكم النظم والبلبلة في كنف الهدوء، واستطاعت النفاذ من ذلك إلى أغراضها الدنيئة، ومطامعها المريبة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلفة، ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير.

إن القاضي المسلم النزيه يكمل بعدله وتقواه نقص المتداعيين الغششة، والقاضي الجائر يستطيع الميل بالنفوس المستقيمة ولي أعناقها؛ لتحقيق رغباته وإشباع شهواته، وقائد القاضيين كليهما هي النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:٧-١٠] .

أيها الناس: إن أعجب الأشياء مجاهدة النفس ومحاسبتها، لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، وقدرة رهيبة، فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب؛ فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن آخرين بالغوا في خلافها حتى ظلموها ومنعوها حقها، وأثر لومهم لها في تصرفاتهم وتعبداتهم، ومن الناس من أفرد نفسه في خلوة وعزلة أثمرت الوحشة بين الناس وآلت إلى ترك فرائض، أو فضلٍ من عيادة مريض أو بر والد.

وإنما الحازم المحكم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول، فالمحقق المنصف هو من يعطيها حقها ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركة بركة، ومحاسبة النفس حياة، والغفوة عنها لونٌ من ألوان القتل صبراً.

عباد الله: لقد قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:١٨] .

إن العبد المسلم لن يبلغ درجة التقوى حتى يحاسب نفسه على ما قدمت يداه، وعلى ما يعقب عليه العزم في شئونه في جميع الأمور، فينيب إلى الله مما اجترح من السيئات، ملتمساً عفو الله ورضاه طامعاً في واسع رحمته وعظيم فضله.

ومحاسبة النفس المؤمنة سمة للمؤمن الصالح، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

والذنوب واردة على كل مسلم، ولكن لا بد لها من توبة، ولا توبة من دون محاسبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} رواه الترمذي.

يتوب العبد بعد أن يحاسب نفسه، ويحاسب نفسه؛ لينجو من حساب الآخرة، فإن الشهود كثير، ولا يملك العبد في الاحتيال من فتيلٍ ولا نقير ولا قطمير: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:٢١] .

{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:٤] قال الصحابة رضي الله عنهم: {يا رسول الله! وما أخبارها؟ قال: أن تشهد على كل عبدٍ أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا} رواه أحمد وغيره.

فنظّر الله الخليفة الراشد ورضي عنه، ذا الكلمة الراشدة الراسمة طريق النجاح: [[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨]] ]

إن ارتفاع النفس ونضوجها لا يتكون فجأة ولا يولد قوياً ناضجاً دونما سبب، بل يتكون على مكث وينضج على مراحل، وإن ترويض النفس على الكمال والخير وفطامها عن الضلال والشر يحتاج إلى طول رقابة، وكثرة حساب، وإن عمارة دارٍ جديدة على أنقاض دارٍ خربة لا يتم طفرة بارتجال واستعجال؛ فكيف ببناء النفس وإنشائها المنشأ السوي، وإذا كانت النفس الرديئة دائمة الإلحاح على صاحبها، تحاول العود بسلوكه بين الحين والحين، فلن يكفكف شرها أجل مؤقت، وإنما تحتاج إلى عاملٍ لا يقل قوة عنها، يعيد التوازن على عجلٍ إذا اختل، ألا وهو عامل المحاسبة.

إنه لا أشد حمقاً ولا أغرق غفلة ممن يعلم أنه يُحصى عليه مثاقيل الذر، وسيواجه بما عمله من خيرٍ أو شر، ويضل في سباته العميق لاهياً، غير مستعتب لنفسه ولا محاسب لها، يمسي على تقصير، ويصبح على تقصير، سوء يتلوه سوء، كذبٌ وزور، غيبة ونميمة، حسدٌ وتشفي، دجلٌ وفجور، فجورٌ في السلوك، وفجورٌ في التطاول بالسوء على من سوى نفسه وأهله.

قال أحد السلف: من حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآله، ومن لم يحاسب نفسه دامت خسارته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته.

أيها المسلم -يا رعاك الله- إن قهرتك النفس بغلبتها فَسُل عليها سوط العزيمة، فإنها إن عرفت جدك، استأسرت لك، الدنيا والشيطان خارجان عنك، والنفس عدوٌ مباطنٌ لك، ومن أدب الجهاد: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:١٢٣] إن مالت بك الشهوات فألجمها بلجام التقوى، فإن رفعت نفسها بعين العجب؛ فذكرها خساسة أصلها، فإنك والله ما لم تجد مرارة الدواء في حلقك لم تقدر على ذرة من العافية في بدنك.

النفس مثل كلب السوق متى شبع نام، وإن جاع بصبص إليك بذنبه، والمعلوم المشاهد أنه متى قوي عزم مجاهدة النفس لانت له بلا حرب، ولما قويت مجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم تعدت إلى كل من تعدى، فأسلم قرينه صلوات الله وسلامه عليه، والفاروق رضي الله عنه يشيد به المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إيه يا بن الخطاب! إيه يا بن الخطاب! والله ما رآك الشيطان في فج إلا سلك فجاً غير فجك} .

فيا أيها المسلم: بدّل اهتمامك لك باهتمامك بك، واسرق منك لك فالعمر قليل، تظلَّم إلى ربك منك، واستنصر خالقك عليك، يأمرك بالجد وأنت على الضد أبداً تفر إلى الزحف! وما ارتقيت درجة مجاهدة النفس ومحاسبتها، أتروم حينها الحصاد وأنت لم تبذر بعد؟!

فإن النفس لن تُرْضَى إذا لم تُرَضْ، لأنها سبعٌ عقور، وإنما يراد الصيد لا العضوض: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٤٠-٤١] .

إن النفس إذا كانت تهوى وتشتهي، والمرء ينهاها ويزجرها؛ كان نهيه إياها عبادةً لله تعالى يثاب عليها، قال صلى الله عليه وسلم: {المجاهد من جاهد نفسه} والمرء أحوج إلى جهاد نفسه أحوج منه إلى جهاد الكفار، فإن هذا فرض كفاية وجهاد النفس فرض عين، ومن جاهد النفس لا يكون محموداً فيه إلا إذا غلب، بخلاف جهاد الكفار فإنه كما قال تعالى: {وَ