للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإسلام شريعة حرة]

الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، له مقاليد السموات والأرض، سبحانه كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمع، وخير من صلى وركع، وأبلغ من دعا إلى الله فأسمع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة، ورضي عنهم وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: -

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، والتوكل عليه، والاستغاثة به، والاعتماد عليه، والتذلل بين يديه، فبذلك تكون الرفعة، وتحصل المنَّة، وتنال الدرجة، وتكون العاقبة المحمودة في الأولى والأخرى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢-٦٣] .

أيها الناس: إن المترقب في مجموع العالم اليوم بقضه وقضيضه، والذي يلقي بثاقب نظره صوب الفلك الماخرة وسط زوابع يموج بعضها في بعض، ونوازل تتلاطم كموج من فوقه موج من فوقه سحاب، ليوقن من خلال سبره للأحداث العامة والمدلهمات المتكاثرة، على كافة مناحي الحياة بلا استثناء، نعم.

إنه ليوقن أن الذين يفهمون أن مبدأً ما من المبادئ، أو حركة ما من الحركات، أو دعوة ما من الدعوات المنبثقة هنا وهناك يمكن أن تكبح جماح المظالم، بشتى صورها مهما زوقت وزيف للناس مفادها، أو أن تسد ثلمة المجتمعات الشارخة، دون أن يكون ذلك كله من خلال الإسلام، وروحه وشريعته، ومن يفهم خلاف ذلك فهو شاذٌ برمته، إما أنه مريض خراص، أو عرق دخيل دساس، لا يعول على مثله ولا يوثق به.

إن الإسلام في صميمه شريعة حرة، قد حررت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ودلت على أن العزة مرهونة بها، والهوان والدون نتيجة للنائي عنها، يبدأ ذلك جلياً من ضمير الفرد، وينتهي في محيط ضمير المجتمعات بأسرها.

ومهما يكن الأمر فإن الإسلام لا يمكن أن يعمر قلباً بحلاوته، ثم هو يدعه مستسلماً خاضعاً لسلطانٍ في الأرض غير سلطان واحد قهار: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:٨٤] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:٨٥] ، وتلك لعمر ربي هي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة.

إننا -أيها المسلمون- إذا ما رأينا المظالم تقع على الأرض حثيثة، وإذا ما سمعنا المنكوبين وذوي الديار المغتصبة والأراضي المتخطفة يئنون ويصرخون ويهرعون ويتوجعون حتى تلامس صيحاتهم أسماع أمة الإسلام، غير أنها لم تلامس أسماع نخوة أمة حاضرة، تهب لرفع ما نزل، ودفع ما قد يقع، فلنا حينئذٍ أن تساورنا الشكوك جميعاً تجاه خلل ما، هو السر الكامن في وجود هذا الوهن العظيم وسكون من له حق وحراك من لا حق له، والذي من خلاله فُتَّ عضد الأمة، ونُكثت جراحها، وجعلها شذر مذر، ولا جرم أن من استطب لواقعه فلن يعدم معرفة الداء ومحله.

أيها المسلمون: النسيم قد لا يهب عليلاً داخل المجتمعات المسلمة على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وتضطرم فوهات البراكين، كما أن ارتقاب الراحة الكاملة إنما هو نوع وهم وطيف وتخييل، ومن العقل والحكمة توطين النفس على مواجهة بعض المضايقات على الإسلام والمسلمين والاستعداد لحلها، والوقوف بحزم أمامها، وترك إضاعة الأوقات في التعليق المرير عليها والذي قد يفقأ العين ولا يقتل صيداً، ثم إن الفتن التي تعترض أمة الإسلام حيناً بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيص وابتلاء: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال:٣٧] .

وقد شرع الله لنا أن نقابل ابتلاءه بالسراء بقوله عن سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:٤٠] وكذلك أن يكون موقفنا في الضراء مغايراً لما ذكره الله على وجه الذم بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:١١] وقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:١٠] .

إن غير المسلمين لن يرضوا عن أمة الإسلام إلا بعد أن تترك ديناها وتبتعد عن شريعتها، أو لا أقل من أن تتراجع أو أن تقدم تنازلات، فلا تبقي من الإسلام إلا اسمه، وهذا أمر ينبغي ألا يختلف فيه اثنان وألا يجادل فيه متفيهقان.

جاء عند أحمد وابن أبي شيبة من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب وقال: {لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني} .

ومن هذا المنطلق -عباد الله- فإن المساومة على الانتماء للدين صورة ومعنى، أو المساومة على الثوابت التي لا تقبل الخلاف والجدل والتي يخضع لها كل زمن وليست تخضع هي لكل زمن: إن المساومة على مثل هذا لهو خيانة عظمى وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه، إذ شرف المرء وشرف المجتمع إنما هو في الانتساب إلى الإسلام والعمل به، والدعوة إليه، والثبات عليه حتى الممات.

إن من غيرته صروف الحياة، أو هزت كيانه خطوب وتداعيات، ورغبة أو رهبة، ثم زلت قدمه عن دينه بعد ثبوتها، فإنما هو مفرط ضائع، ناقض بعد غزل، وحالٌّ بعد عقد حتى يصبح فريسة الحور بعد الكور، والذل بعد العز: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٢٥-٢٨] .

فمن هنا -عباد الله- جاءت شريعة الإسلام بالتحضيض على الثبات على الدين، والعضِّ عليه بالنواجذ حتى الممات: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] .

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {